وأشعلت بنت مجذوب سيجارة وقالت : ( عليَّ الطلاق يا حاج أحمد ، كنت حين يرقد زوجي بين فخدي أصرخ صراخاً تجفل منه البهائم المربوطة في مراحها في الساقية ) . وكان بكري قبل ذلك يضحك ولا يقول شيئاً ، فقال : ( حدثينا يا بنت مجذوب . أي أزواجك كان أحسن ؟ ) فقالت بنت مجذوب على الفور : ( ود البشير ) . فقال بكري : ( ود البشير الكحيان التعبان ؟ كانت العنز تأكل عشاءه ) . ونفضت بنت مجذوب رماد السيجارة على الأرض بحركة مسرحية بأصابعها وقالت : ( عليَّ الطلاق ، كان عند شيء مثل الوتد حين يدخله في أحشائي لا أجد أرضاً تسعني . كان يرفع رجلي بعد صلاة العشاء ، وأظل مشبوحة حتى يؤذن ..
آذان الفجر . وكان حين تأتيه الحالة يشخر كالثور حين يذبح وكان دائماً حين يقوم من فوقي يقول : ها لله الله يا بنت مجذوب ) . فقال لها جدي : ( لا عجب أنك قتلته في عز الشباب ) . فضحكت بنت مجذوب وقالت : ( قتله أجله . هذا الشيء لا يقتل أحداً ) .
كانت بنت مجذوب إمرأة طويلة لونها فاحم مثل القطيفة السوداء ، ما يزال فيها إلى الآن وهي تقارب السبعين بقايا جمال . وقد كانت مشهورة في البلد ، يتسابق الرجال والنساء على السواء لسماح حديثها لما فيه من جرأة وعدم تحرج . وكانت تدخن السجاير وتشرب الخمر وتحلف بالطلاق كأنها رجل . ويقال أن أمها كانت ابنة أحد سلاطين الفور . وقد تزوجت عدداً من خيرة رجال البلد ، ماتوا كلهم عنها وتركوا لها ثروة ليست قليلة . وقد أنجبت ولداً واحداً وعدداً لا يحصى من البنات أشترهن بجمالهن وعدم تحرجهن في الحديث ، مثل أمهن . ويروى أن إحدى بنات بنت مجذوب تزوجت رجلاً لم تكن أمها راضية عنه . وحملها وسافر بها . ولما عاد بعد نحو من عام أراد أن يقيم وليمة يدعو إليها أقارب زوجته . فقالت له الزوجة : ( أن أمي لا تتحرج في كلامها ومن الخير أن ندعوها وحدها ) . وفعلاً ذبحوا وأولموا لها . وبعد أن طعمت وشربت قالت لإبنتها وزوجها يسمع : ( يا آمنة . هذا الرجل لم يقصر في حقك . فمسكنك حسن وملبسك حسن ، وقد ملأ يديك ورقبتك ذهباً . ولكن لا يبدو عليه أنه ..
يقدر على إشباعك في الفراش . فإذا أردت الشبع الصحيح فأنا أعرف لك زوجاً إذا جاءك لا يتركك حتى تزهق روحك ) ولما سمع الزوج هذا الكلام غضب غضباً شديداً وطلق زوجته ثلاثاً في الحين .
وقالت بنت مجذوب لود الريس : ( ما بالك ، لك عامان وأنت مكتف بزوجة واحدة ؟ هل ضعفت همتك ؟ ) .
وتبادل ود الريس وجدي نظرات لم أفهمها إلا فيما بعد ، وقال : ( الوجه وجه شيخ والقلب قلب شاب . هل تعرفين أرملة أو ثيباً تصلح لي ؟ ) .
وقال بكري : ( النصيحة لله يا ود الريس . أنت لم تعد رجل زواج . إنك الآن شيخ في السبعين وأحفادك صار لهم أولاد . ألا تستحي ، لك كل سنة عرس ؟ الآن يلزمك الوقار والاستعداد لملاقاة الله سبحانه وتعالى ) .
ضحكت بنت مجذوب وضحك جدي لهذا القول ، وقال ود الريس في غضب مصطنع : ( ماذا يفهمك أنت في هذه الأمور ؟ أنت وحاج أحمد كل واحد منكم اكتفى بامرأة واحدة ولما ماتتا وتركناكما لم تجدا الجرأة على الزواج . حاج أحمد هذا طول اليوم في صلاة وتسبيح كأن الجنة خلقت له وحده . وأنت يا بكري مشغول في جمع المال إلى أن يريحك منه الموت . الله سبحانه حلل الزواج وحلل الطلاق وقال ما معناه خذوهن بإحسان أو فارقوهن بإحسان .
وقال في كتابه العزيز : النسوان والبنون زينة الحياة الدنيا ) . وقلت لود الريس إن القرآن لم يقل ( النسوان والبنون ) ولكنه قال ( المال والبنون ) . فقال : ( مهما يكن ، لا توجد لذة أعظم من لذة النكاح ) .
وملس ود الريس شاربيه المقوسين بعناية إلى أعلى ، طرفاهما كحد الإبرة ، ثم أخذ يمسح بيده اليسرى لحيته الغزيرة البيضاء التي تلبس وجهه من الصدغ إلى الصدغ ، ويتنافر لونها الأبيض الناصع من سمرة وجهه كلون الجلد المدبوغ ، فكأن اللحية شيء صناعي ألصق بالوجه . ويختلط بياض اللحية دون مشقة ببياض العمة الكبيرة ، مقيماً إطاراً صارخاً يبرز أهم معالم الوجه : العينين الجميلتين الذكيتين ، الأنف المرهف الوسيم . وود الريس يستعمل الكحل متذرعاً بأن الكحل سُنَّة ، لكنني أظن أنه يفعل ذلك زهواً . كان في مجموعه وجهاً جميلاً ، خاصة إذا قارنته بوجه جدي الذي ليس فيه شيء يميزه ، ووجه بكري وهو كالبطيخة المكرمشة .
وواضح أن ود الريس يدرك ذلك ، وقد سمعت أنه كان في شبابه آية في الحسن ، وأن قلوب الفتيات كانت تخفق بحبه قبلي وبحري ، أعلى النهر وأسفله . كان كثير الزواج والطلاق لا يعنيه في المرأة أنها امرأة ، يأخذهن حيثما اتفق ، ويجيب إذا سُئل : ( الفحل غير عواف ) . وأذكر من زوجاته دنقلاوية من الخندق ، وهدندوية من القضارف ، وأثيوبية
وجدها تخدم عند ولده الأكبر في الخرطوم ، وامرأة من نيجيرية عاد بها في حجته الرابعة . ولما سُئِل كيف تزوجتها قال أنه اجتمع بها وبزوجها في السفينة بين بور سودان وجدة وتصادق معها . ولكن الرجل توفي في مكة يوم الوقوف على عرفات . وقال له وهو يحتضر : ( أوصيك بزوجتي خيراً ) . ولم يجد خيراً من زواجها . عاشت معه ثلاثة أعوام ، وهو وقت طويل بحساب ود الريس . وكان فرحاً بها ، وأعظم سروره أنها كانت عاقراً . وكان يحكي للناس خصائص أفعاله معها ، ويقول : ( من لم يتزوج فلاتية لم يعرف الزواج ) . وأثناء حياته معها تزوج بامرأة من الكبابيش ، عاد بها في زيارة له إلى حمرة الشيخ . لكن المرأتين لم تطيقا الحياة معاً ، فطلق الفلاتية إرضاء للكباشية ، ولكن الكباشية ، بعد ذلك بقليل هجرته وهربت إلى أهلها في حمرة الشيخ .
وضربني ود الريس بكوعه في جنبي وقال : ( قالوا نسوان النصارى شيء فوق التصور ) . فقلت له : ( لا أدري ) . فقال : ( أي كلام هذا ؟ شاب مثلك في عز الشباب يعيش سبع سنين في بلاد الهنك والرنك وتقول لا أدري ) . سكت ، فقال ود الريس : ( قبيلتكم هذه لا خير فيها . أنت رجال المرأة الواحدة ليس فيكم غير عمك عبدالكريم ذلك هو الرجل ) .
كنا بالفعل معروفين في البلد بأننا لا نطلق زوجاتنا ولا ..
نتزوج عليهن ، وكان أهل البلد يتندرون علينا ويقولون أننا نخاف من زوجاتنا . إلا عمي عبدالكريم كان مطلاقاً مزواجاً ، وزانياً أيضاً .
وقالت بنت مجذوب : ( حريم النصارى لا يعرفن لهذا الشيء كما تعرف له بنات البلد . نساء غلف ، الحكاية عندهن كشرب الماء . بنت البلد تعمل الدلكة والدخان والريحة وتلبس الفركة القرمصيص . وحين ترقد على البرش الأحمر بعد صلاة العشاء وتفتح فخذيها ، يشعر الرجل كأنه أبو زيد الهلالي . الرجل الما عنده همة يصبح له همة ) .
وضحك جدي وضحك بكري وقال ود الريس : ( دعك من بنات البلد يا بنت مجذوب . النسوان البرانيات ، هؤلاء هن النساء ) . وقالت بنت مجذوب : ( عقلك هو البراني ) . وقال جدي : ( ود الريس يحب النسوان الغير مطهرات ) . وقال ود الريس : ( عليَّ اليمين يا حاج أحمد ، لو ذقت نساء الحبش والفلاتة كنت رميت مسبحتك . وتركت صلاتك ما بين أفخاذهن كأنه الصحن المكفي ، صاغ سليم ، بكامل خيره وشره . عندنا هنا يقطعونه ويتركونه مثل الأرض الخلاء ) .
وقال بكري : ( الختانة من شروط الإسلام ) . فقال ود الريس : ( أي إسلام هذا ؟ ) إسلامك إنت وإسلام حاج ..
أحمد ، لأنكم لا تعرفون الذي يصلحكم من الذي يضركم . الفلاتة والمصريون وعرب الشام . اليسوا مسلمين مثلنا ؟ لكنهم ناس يعرفون الأصول . يتركون نساءهم كما خلقهن الله . أما نحن فنجزهن كما تجز البهيمة ) .
وضحك جدي حتى اسقط ثلاث حبات من مسبحته مرة واحدة دون وعي ، وقال : ( المصريات ، مثلك لا يقدر عليهن ) . قال له ود الريس : ( وما أدراك إنت بالمصريات ؟ ) ، فقال بكري بالنيابة عن جدي : ( هل نسيت أن حاج أحمد سافر إلى مصر سنة ستة وأقام فيها تسعة أشهر ؟ ) .
وقال جدي : ( مشيت على قدمي ، ليس معي غير المسبحة والإبريق ) . فقال ود الريس : ( وماذا فعلت ؟ عدت كما ذهبت بالمسبحة الإبريق . علي اليمين ، لو كنت محلك لما عدت فارغ اليدين ) . فقال جدي : ( أظنك كنت رجت ومعك امرأة . هذا هو كل همك . أنا رجعت ومعي المال فاشتريت الأرض وعمرت الساقية وطهرت أولادي ) . وقال ود الريس : ( بالله يا حاج أحمد ، هل ذقت الشيء المصري ؟ ) . كانت حبات المسبحة طول الوقت تتفلت بين أصابع جدي طالعة نازلة كأنها دولاب الساقية . لكن الحركة توقفت فجأة ..
ورفع جدي وجهه إلى السقف وفتح فمه . ولكن بكري كان أسبق منه فقال : ( إنت يا ود الريس مجنون . رجل كبير لكن ما عندك فهم . النسوان نسوان في مصر أو السودان أو العراق أو واق ، الواق ، السوداء والبيضاء والحمراء كلهن سواسية ) .
ولم يستطع ود الريس من شدة دهشته أن يقول شيئاً . ونظر إلى بنت مجذوب كأنه يستنجد بها . وقال جدي : ( الحق لله أنني كدت أتزوج في مصر . المصريون ناس طيبون ويحفظون العشرة . والمرأة المصرية تعرف قيمة الرجل . تعرفت برجل تقي في بولاق كنا نلتقي دائماً في صلاة الفجر في مسجد أبوالعلا . دخلت بيته وتعرفت على أهله كان أبو بنات عنده ست بنات كل واحدة تقول للقمر قوم وأنا أقعد محلك . بعد مدة قال لي : ( يا سوداني إنت رجل متدين وتحفظ العشرة خليني أزوجك بنتاً من بناتي . الحق لله يا ود الريس نفسي مالت إلى البنت الكبيرة . لكن بعدها بقليل جاني تلغراف بوفاة المرحومة أمي فسافرت في الساعة والحين ) . وقال بكري : ( رحمة الله عليها . كانت امرأة فاضلة ) . وتنهد ود الريس وقال : ( يا خسارة . الدنيا هكذا . تعطي الذي لا يريد أن يأخذ . علي اليمين لو كنت محلك كنت عملت عمايل . كنت تزوجت وقعدت هناك وذقت حلاوة الحياة مع بنات الريف . ماذا أرجعك لهذا البلد الخلاء المقطوع ؟ ) .
وقال بكري : ( الغزال قالت بلدي شام ) . وكانت بنت مجذوب قد أوقدت سيجارة أخرى جذبت منها الدخان بسخاء وعكرت به سماء الغرفة ، فقالت لود الريس : ( إنت لم تعدم حلاوة الحياة حتى في هذا البلد الخلاء المقطوع . ها أنت سمين بدين لا تعجز ولا تكبر مع إنك زدت علي السبعين ) .
فقال ود الريس : ( علي اليمين ، سبعين سنة فقط لا تزيد يوماً واحداً ، إنما إنت شرط أكبر من حاج أحمد ) . فقال له جدي : ( خاف الله يا ود الريس . بنت مجذوب لم تكن ولدت حين تزوجت أنا . وهي أصغر منك بسنتين أو ثلاث ) . فقال ود الريس : ( على أي حال ، أنا في يومنا هذا أنشط واحد فيكم . وعلي اليمين ، بين فخذي المرأة أنا أنشط من حفيدك هذا ) .
فقالت بنت مجذوب : ( إنت تفلح في الكلام . ولا بد إنك تجري وراء النساء لأن بضاعتك مثل عقلة الأصبع ) . فقال ود الريس : ( لو كنت تزوجتني يا بنت مجذوب لوجدت شيئاً مثل مدافع الإنكليز ) . فقالت بنت مجذوب : ( والمدافع سكتت وقت مات ود البشير . إنت يا ود الريس رجل مخرف ، عقلك كله في رأس ذكرك ، ورأس ذكرك صغير مثل عقلك ) ..
وارتفع ضحكهم جميعاً ، حتى بكري الذي كان من قبل يضحك بهدوء . وتوقف جدي عن الطقطقة بمسبحته تماماً ، وضحك ضحكته النحيلة الخبيثة المنطلقة . وضحكت بنت مجذوب بصوتها الرجالي المبحوب . وضحك ود الريس ضحكاً أقرب إلى الشخير منه إلى الضحك . ومسحوا الدموع من أعينهم ، وقال جدي : ( استغفر الله . والله ضحكتونا يا جماعة اللهم أجمعنا ثانية في ساعة خير ) . وقال بكري : ( استغفر الله . اللهم أغفر لنا وارزقنا حسن الخاتمة ) . وقال ود الريس : ( استغفر الله العظيم . أيام نقضيها على وجه الأرض وبعدها ربنا يفعل فينا ما يشاء ) .
وهبت بنت مجذوب واقفة دفعة واحدة ، كما يهب رجل في الثلاثين ، وانتصبت بطولها ، معتدلة القامة ، لا انحناء في الظهر ولا تقوس في الكتفين . وقام بكري متحاملاً على نفسه وقام ود الريس يتكئ قليلاً على عصاه . وقام جدي من على فروة الصلاة وجلس على سريره ذي الأرجل القصيرة ، ونظرت إليهم ، ثلاثة شيوخ وامرأة شيخة ، ضحكوا برهة على حافة القبر . وفي غد يرحلون . غداً يصير الحفيد أباً والأب جد ، وتستمر القافلة .
ثم خرجوا . وقال لي ود الريس وهو يذهب : ( باكر يا أفندي تتغدى معانا ) ..
وتمدد جدي على سريره ، ثم ضحك ، وحده هذه المرة ، كأنما يؤكد إحساسه بالعزلة ، بعد أن ذهب الناس الذين يضحكونه ويضحكهم . وبعد فترة قال : ( هل تدري لماذا دعاك ود الريس للغداء ؟ فقلت له إننا أصدقاء وقد دعاني من قبل . فقال جدي : ( إنه يريد منك خدمة ) .
فقلت : ( ماذا يبغي ؟ ) .
قال : ( يبغي الزواج ) .
فتضاحكت وقلت لجدي : ( ما شأني بزواج ود الريس ؟ ) فقال جدي : ( إنت وكيل العروس ) . لذت بالصمت . فقال جدي وهو يظن أنني لم أفهم : ( ود الريس يريد أن يتزوج أرملة مصطفى سعيد ) . مرة أخرى لذت بالصمت ، فقال جدي : ( ود الريس لا يزال شاباً ، وهو صاحب مال . وعلى أي حال المرأة يلزم لها الستر . ثلاثة أعوام مرت على وفاة زوجها . ألا تريد الزواج أبداً ؟ ) . قلت له إنني لست مسؤولاً عنها ، أبوها موجود وإخوتها ، فلماذا لا يطلبها ود الريس منهم ؟ فقال جدي : ( البلد كلها تعرف أن مصطفى سعيد جعلك وصياً على زوجته وولديه ) . قلت له إنني وصي على الولدين ولكن المرأة حرة التصرف وأولياؤهم موجودون . فقال جدي : ( إنها تثق بكلامك . لو حدثتها فقد ترضى ) .
أحسست بغيظ حقيقي أدهشني ، إذ أن هذه الأشياء مألوفة في البلد . وقلت لجدي : ( أنها رفضت رجالاً أصغر منه سناً ، إنه يكبرها بأربعين عاماً ) . ولكن جدي أصر على أن ود الريس شاب وأنه ميسور الحال وأنه متأكد أن أباها لن يمانع ولكن المرأة نفسها قد ترفض ولذلك أرادوا أن يجعلونني واسطة خير ) .
حبس الغضب لساني فلذت بالصمت . وقفزت إلى ذهني صورتان فاضحتان في آن واحد . ولشدة عجبي ، اتحدت الصورتان في ذهني ، وتخيلت حسنة بنت محمود ، أرملة مصطفى سعيد ، هي المرأة نفسها في الحالتين فخذان بيضاوان مفتوحتان في لندن ، وامرأة تثن تحت ود الريس الكهل ، قبيل طلوع الفجر في قرية مغمورة الذكر عند منحنى النيل . إن كان ذلك شراً فهذا أيضاً شر ، وإن كان هذا ، مثل الموت والولادة وفيضان النيل . وحصاد القمح ، جزءاً من نظام الكون ، فقد كان ذلك أيضاً كذلك . وأتصور حسنة بنت محمود ، أرملة مصطفى سعيد ، في الثلاثين من العمر تبكي تحت ود الريس الذي بلغ السبعين ، ويتحول بكاؤها إلى قصص من قصص ود الريس المشهور عن نسائه الكثيرات ، يتندر بها رجال البلد ، فيزداد الغيظ في صدري ضراوة . ولم استطع البقاء فخرجت ، وسمعت جدي ينادي ورائي فلم التفت . وفي بيتنا سألني أبي عن سبب غضبي فحكيت له القصة . ضحك وقال : ( هل هذا شيء يثير الغضب ؟ ) .
قريباً من الساعة الرابعة بعد الظهر ذهبت إلى بيت مصطفى سعيد ، ودخلت من باب الحوش الكبير ، ونظرت برهة إلى اليسار إلى الغرفة المستطيلة من الطوب الأحمر . ساكنة ، لا كالمقبرة ، ولكن كسفينة ألقت مراسيها في عرض البحر . إنما الوقت لم يحن بعد . وأجلستني على كرسي في المصطبة أمام الديوان ، المكان عينه ، وجاءت لي بكوب من عصير الليمون . وجاء الولدان وسلما علي ، الأكبر محمود إسم أبيها ، والأصغر سعيد إسم أبيه . طفلان عاديان ، أحدهما في الثامنة وثانيهما في السابعة ، يركبان حماراً كل صباح إلى المدرسة على بعد ستة أميال . إنهما أمانة في عنقي ، ومن الأسباب التي تحضرني هنا كل عام أن أتفقد أحوالهما . سنختنهما هذه المرة ، وسنحضر المغنين والمداحين ونقيم إحتفالاً يكون ذكرى مضيئة من ذكريات طفولتهما . قال : ( جنبهما مشقة السفر ) . إنني لن أفعل شيئاً من هذا القبيل ، إذا أرادا ، حين يكبران ، أن يسافرا فليسافرا . كل أحد يبدأ ..
من أول الطريق ، والعالم في طفولة لا تنتهي .
انصرف الولدان وظلت هي واقفة أمامي . قامة ممشوقة تقرب من الطول ، ليست بدينة ولكنها ريانة ممتلئة كعود قصب السكر ، لا تضع حناء في قدميها ولا في يديها ، ولكن عطراً خفيفاً يفوح منها . شفتاها لعساوان طبيعة ، وأسنانها قوية بيضاء منتظمة . وجهها وسيم ، والعينان السوداوان الواسعتان يختلط فيهما الحزن والحياء . حين سلمت عليها أحسست بيدها ناعمة دافئة في يدي . امرأة نبيلة الوقفة ، أجنبية الحسن ، أم أنني أتخيل شيئاً ليس موجوداً حقيقة ؟ امرأة أحس حين ألقاها بالحرج والخطر ، فأهرب منها أسرع ما أستطيع . هذا هو القربان الذي يريد ود الريس أن يذبحه على حافة القبر ، ويرشي به الموت فيمهله عاماً أو عامين .
وظلت واقفة رغم إلحاحي ، ولم تجلس إلا حين قلت لها : ( إذا لم تجلسي سأذهب ) . بدأت الحديث بطيئاً متعسراً ، ومضى كذلك والشمس تنحدر نحو المغيب ، والهواء يبرد قليلاً قليلاً ، وقليلاً قليلاً أيضاً أخذت عقدة لساني تنحل وعقدة لسانها . وقلت لها شيئاً أضحكها وارتجف قلبي من عذوبة ضحكها . وانتشر دم المغيب فجأة في الأفق الغربي كدماء ملايين ماتوا في الحرب فجأة بالهزيمة ، ونزل ظلام كامل مستتب احتل الكون بأقطابه الأربعة ، وأضاع مني الحزن ..
والحياء الذي في عينيها . لم يبق إلا الصوت الذي دفأته الإلفة والعطر الخفيف كينبوع قد يجف في أي لحظة . وفجأة قلت لها : ( هل أحببت مصطفى سعيد ؟ ) .
لم تجب . وظللت برهة أنتظر ولكنها لم تجب . ثم أدركت أن الظلام والعطر كادا يخرجانني عن طوري وأن ذلك سؤال لا يسأل في ذلك الزمان وذلك المكان . ولكن الظلام ما لبث أن ثغر ثغرة نفذ منها صوتها إلى أذني :