أبوبكر الصديق.. شيبة الحمد
إنه عبدالله بن أبي قحافة التميمي وأمه سلمى بنت صخر، وكان يقال لها “أم الخير”. فكلاهما من بني تميم
المشهورين بدماثة الخلق والأدب الجم والعلم الوافر.
أما مولده فكان بعد مولد النبي صلى الله عليه وسلم بعامين تقريبا، وكان في صغره تبدو عليه مخايل الذكاء
وعلامات النجابة والخلق الطيب، وقد اشتهر في مطلع شبابه، بحسن السيرة، وبتقدمه في قومه. ويقال انه حين
بلغ اشده، أنف من عبادة الاصنام التي كان يعبدها اجداده، وسخر من الذين كانوا يعبدونها في زمانه، لأنها
“لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر” على حد ما كان يردد امام القوم.
كذلك كانت عنده خصلة حميدة اخرى في مطلع شبابه هي انه لم يشرب الخمر في الجاهلية، وكان يقول:
“انني اصون عرضي وأحافظ على مروءتي فإن من يشرب المخمر يضيّع عقله وتذهب مروءته”. وقد اشتغل
في تجارة البز، فراجت تجارته، ونمت ثروته، إذ كان حريصا على الأمانة والاستقامة، مما جعل الناس يثقون به،
ويقبلون على التجارة معه.
وكان قدر أبي بكر الصديق ان يحمل عبء الدعوة للإسلام، منذ تباشير فجره الاول، ومن كان اجدر من
“شيبة الحمد” لهذه المهمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهو الموثوق بخلقه ودينه والمعروف بين رجالات عصره؟
اذ كان موضع اجلال وتقدير بين القوم، فلقبوه بشيبة الحمد، وهذا ما سمح لمجموعة من السابقين الاولين بأن
يدخلوا الاسلام على يديه. ومن هؤلاء القادة المشاهير من المسلمين الأوائل: عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله
والزبير بن العوام وسعد بن ابي وقاص وعبدالرحمن بن عوف، والأدهم بن ابي الأرقم، وأبو عبيدة بن الجراح،
وغيرهم الكثيرون، من مشاهير القادة المسلمين.
مأثرة عظيمة
وكانت للصديق مأثرة عظيمة للغاية، لا يزال الرواة المؤرخون يذكرونها له بكل فخر واعتزاز، وذلك حين تعرضت
مجموعة من الضعفاء والعبيد لمحنة شاقة على ايدي ساداتهم بسبب اعتناقهم الاسلام.
اذ تقدم ابوبكر ومد لهم يد العون، وكان يشتري الواحد منهم بعد الآخر من سيده، ويبادر الى عتقه فورا، ومن هؤلاء:
بلال بن عامر بن فهيرة، ولبينة التي كانت جارية لعمر بن الخطاب قبل اسلامه، كذلك اشترى بلالاً الحبشي من
أمية بن خلف الجمحي، نظير خمس اوقيات من الذهب. وهذه الرغبة الجامحة عند ابي بكر لشراء العبيد من اسيادهم،
بهدف تحريرهم وفك رقابهم من نير العبودية الغاشم دفعت بطبقة السادة الى ان تبالغ في مساومته، من أجل الحصول
على السعر الاعلى. فلم يخش ابوبكر من ذلك، بل كان يتقدم منهم بكل شجاعة، ويبذل المال الجم من أجل عتق واحد
من المسلمين المضطهدين.
في غار ثور
وعندما اشتد أذى المشركين للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وسائر المسلمين، هاجر بعضهم إلى المدينة. وجاء
الإذن للنبي من الرفيق الأعلى بأن يلحق بهم، فأسرع إلى أبي بكر يخبره بذلك فأجابه أبوبكر: الصحبة الصحبة يارسول الله.
وكان أبوبكر من أعظم النسابة عند العرب ومن أعلم الناس بشعاب مكة، ولم يكن هناك أثرى منه وأشجع، لتجهيزه الهجرة
ولذلك جعل ماله وأهله في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم ورحلته التاريخية إلى المدينة. وفي “غار ثور” حيث انقطع
النبي عن أعين الكفار، كان أبوبكر “ثاني اثنين إذ هما في الغار”. وكانت ابنته اسماء ذات النطاقين تأتيهما بالماء والطعام.
أما ابنه عبدالله فكان يوافيهما بأخبار قريش، وما تخطط له من أجل إفشال المسيرة الإسلامية والقضاء عليها، ومن أجل
إلحاق أعظم أذى ممكن بالمسلمين.
كان أبوبكر رحمه الله أول خليفة للمسلمين بعد فاجعة موت النبي صلى الله عليه وسلم وقد نهض خليفة رسول الله ليقول للناس:
“أيها الناس، إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني. الضعيف فيكم قوي عندي حتى
آخذ الحق له، والقوي فيكم ضعيف عندي، حتى آخذ الحق منه. أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت فلا طاعة لي عليكم”.
وسرعان ما أصبحت هذه الخطبة دستوراً للحكم عند أبي بكر، ولدى سائر الخلفاء الراشدين من بعده.
سحق الردة
وكادت الأمور بين الناس تجري على خير ما يرام في أول عهد أبي بكر، لولا ظهور المتنبئين وأهل الردة، حيث كان حاسماً معهم،
فلم يغفل ولم يتردد بل قاد الحرب على المتنبئين وظهر عليهم في كثير من المواقع، وقد استطاع أن يوقع بهم، غير أن من كان
في نفوسهم زيغ من المرتدين انتهزوا فرصة انشغال المسلمين بالصراع مع المتنبئين وأعلنوا خروجهم عن الإسلام وعودتهم إلى الجاهلية.
وقد انتشرت الردة في بني عامر وهوازن وسليم، وكان أعظمها وأخطرها على الإسلام والمسلمين في اليمامة والبحرين، وهم في
معظمهم من عناصر يهودية وفارسية شجعت المرتدين على التمسك بانحرافاتهم. وسار “المكعبر” لإعادة احتلال المناطق العربية
وضرب الإسلام في عقر داره. ولهذا هب أبوبكر الصديق لنجدة المسلمين في البحرين، وأرسل جيشاً بقيادة العلاء الحضرمي
وطلب من خالد بن الوليد مساعدته، بعد انتهائه من حرب مسليمة الكذاب، وبذلك تم على يديه سحق حركة الارتداد عن الإسلام،
كما تم القضاء على زعيم المرتدين، أما حروبه الأخرى فكانت في وجه مانعي الزكاة وإلزامهم بدفع زكاة أموالهم، وقوله لمن
لامه في ذلك: “والله لو منعوني عقال بعير كانوا يعطونه لرسول الله لحاربتهم عليه”. كما كانت له فضيلة جمع القرآن في مصحف
واحد وهو المصحف الذي استنسخه عثمان فيما بعد، ومات الصديق رضي الله عنه بعد عامين وبضعة أشهر من تسلمه الخلافة.