مواقف مضيئة
أمير المؤمنين يحتكم إلى القاضي


عندما نزل الوحي على قلب النبي صلى الله عليه وسلم كان أول من صدقه وآمن به وبرسالته ثلاثة نفرٍ: من الرجال آمن به أبو بكر الصديق (عبد الله بن أبي قحافة) رضي الله عنه الذي إنما سمي صديقاً من فرط حبه للنبي وثقته فيه وتصديقه إياه دون مناقشة ودون تردد. ومن النساء آمنت به خديجة بنت خويلد رضي الله عنها أولى زوجاته وأم أولاده وأولى أمهات المؤمنين التي هي بحق راعية الدعوة وحاضنتها. ومن الشباب آمن به علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وكان وهو بعد فتى صغيراً لم يبلغ بعد مبلغ الرجال لكنه تربى في حجر النبي ونهل من عطر النبوة ورحيق الرسالة حتى من قبل أن ينزل الوحي على قلب النبي.

وإنما كرم الله وجه علي بن أبي طالب لأنه لم يسجد قط لصنم ولا وثن. ولكنه تلقى دعوة الإسلام وهو بعد في سن البراءة والطهارة. وكأن إيمان هؤلاء الثلاثة كان إشارة إلهية إلى الفئات الرئيسية الثلاث التي تكون الأسرة والمجتمع وهي: الرجال والنساء والشباب، فكان هؤلاء الثلاثة هم النماذج الفذة والمشاعل المضيئة والأسوة الحسنة لمن يرجو الله واليوم الآخر.

ولقد كانت المواقف والأحاديث والإشارات التي توضح مكانة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عند النبي صلى الله عليه وسلم ساطعة كالشمس. وقد بدأت منذ وثق فيه النبي ودعاه إلى الإسلام وهو فتى صغير. ثم وهو يختاره فيما بعد لمهمة فدائية كبرى وهي أن ينام في فراشه ليلة الهجرة ليغطي هجرته من ناحية، ويرد ما كان لديه من أمانات ائتمنه عليها مشركو قريش من ناحية أخرى. ثم وهو يختاره زوجاً لابنته الأثيرة فاطمة الزهراء رضي الله عنها. ثم وهو يختاره من دون جميع المهاجرين ليعلنه أخاً له أمام جموع الأنصار والمهاجرين قائلاً: “هذا أخي” وفي رواية: “أنت أخي في الدنيا والآخرة”(1). ثم وهو يختاره للبعثات والسرايا وقيادة الجيوش.

وهو الذي حين نزلت آية المباهلة: “فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين” (2) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة والحسن والحسين فقال: “اللهم هؤلاء أهلي” (3). وقال علي كرم الله وجهه: “وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره. ويكنفني إلى فراشه. ويمسني جسده. ويشمني عرقه. وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه. ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه. يرفع لي كل يوم من أخلاقه علماً. ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يجاور كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري. ولم يجمع بيت واحد في الإسلام غير رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وآله وخديجة وأنا ثالثهما. أرى نور الوحي وأشم ريح النبوة” (4). ولا غرو في ذلك. فهذا أحد آل البيت الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: “إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً” (5).

شجاعة وحكمة



وقد أبلى علي بن أبي طالب بلاء حسناً في الغزوات الكبرى على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ففي غزوة بدر الكبرى قام بدور كبير وقتل الوليد بن عتبة أحد أئمة الكفر. وفي غزوة أُحد حمل لواء المسلمين وكان أحد القلة القليلة التي ثبتت مع النبي صلى الله عليه وسلم ودافعت عنه. وفي غزوة الخندق قاتل عمرو بن ود أحد صناديد قريش فقتله. وكان مع ذلك لا يبدأ بقتال أحد إلا نصحه. ومن وصاياه لابنه الحسن رضي الله عنه: “لا تدعونَّ إلى مبارزة. فإن دعيت فأجب. فإن الداعي إليها باغ والباغي مصروع”.(6). وقد سماه النبي “أبا تراب وأبا الريحانتين وخاصف النعل” فأما التسمية الأولى فقد خرج علي من بيته مغاضباً فأرسل له النبي من يطلبه فرآه نائماً في المسجد فجاءه النبي وهو مضطجع وقد سقط رداؤه عن شِقه فأصابه تراب. فقال له النبي وهو يمسحه: “قم أبا التراب”. وأما الثانية فهو أبو الحسن والحسين ريحانتا الجنة. وأما الثالثة فقد أعطاه النبي نعله يخصفها (أي يخيطها).

وفي غزوة تبوك رأى النبي أن يبقى عليّ في المدينة ولا يسير مع الجيش. فأرجف المنافقون أنه إنما استبقاه لأنه استثقله فتخفف منه. فحمل علي سلاحه ومضى إلى النبي فأخبره بما سمع. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “كذبوا ولكنني خلفتك لما تركت ورائي. فأرجع فأخلفني في أهلي وأهلك. أفلا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي”(7). وفي غزوة خيبر سمع الصحابة النبي يقول: “لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله”. وكان علي كرم الله وجهه هذا الرجل.

وفي كل هذه الغزوات كان علي يبتغي رضا الله ورسوله ونصرة دينه. ويروى أن طلحة بن شيبة بن عبد الله وعباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب قد تفاخروا. فقال طلحة: أنا صاحب البيت (يعني البيت الحرام) ولو أشاء بت فيه. وقال العباس: أنا صاحب السقاية. ولو أشاء بت في المسجد. وقال علي: ما أدري ما تقولان. لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس. وأنا صاحب الجهاد. فنزل قول الله عز وجل: “أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين”.(Cool

ولم يكن الإمام علي كرم الله وجهه رجل قتال ونزال فقط. بل كان صاحب فقه وقضاء وبلاغة. قال صلى الله عليه وسلم “أنا دار الحكمة وعلي بابها”. رواه الترمذي والطبراني. والإمام علي رضي الله عنه كان أعلم الناس في الفقه للدين واللغة العربية لحفظ اللسان من اللغو. وأحكم الناس في القضاء الذي يرعى مصالح العباد. وأحسنهم فتيا، وأسبقهم إلى الاجتهاد. وأعظم أهل زمانه تمرساً بعلوم القرآن وأكثرهم فهماً لبلاغته.

لقد تربى الإمام علي رضي الله عنه في بيت النبوة. وتأثر بأسلوب القرآن الكريم. وظهرت آثار ذلك في كلماته التي اشتملت على نزاهة التوحيد لله وانتظام العقيدة والإيمان بوحدانية الله عز وجل. وتقديس صفاته جل شأنه(9). وإن خطبه وأشعاره التي جمعت في كتاب نهج البلاغة لهي ثروة لغوية رائعة حتى إنه ليعد صاحب الفضل في إنشاء علم النحو الذي حفظ للغة العربية أصولها وقواعد نطقها. وساعده على ذلك أنه كان متمرساً بكل علوم اللغة العربية. فقد كان كاتباً وقارئاً وباحثاً ومدققاً محباً لمناقشة العلماء الذين كانوا يفدون على الكوفة من العراق والشام وبلاد العرب (10).

مكانة خاصة



كان علي بصفاته وخصاله النادرة وبقرابته وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم صاحب مكانة خاصة. وكان الرسول يخصه بما لا يخص به أحداً غيره. ومن ذلك أنه لما نزل صدر سورة التوبة (براءة) كان النبي قد بعث أبا بكر رضي الله عنه ليقيم للناس الحج، قيل له: يا رسول الله لو بعثت بها إلى أبي بكر. فقال: “لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي” ثم دعا علياً بن أبي طالب رضوان الله عليه فقال له: “أخرج بهذه القطعة من صدر براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه: لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله العضباء حتى أدرك أبا بكر بالطريق. فلما رآه أبو بكر قال: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور. ثم مضيا فأقام أبو بكر للناس الحج والعرب على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية. وفي يوم النحر قام علي فأذن في الناس بما أمره النبي به. (11)

ولم يكن علي كرم الله وجهه من طلاب الملك. ولكن الخلافة سعت إليه بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه. وكان ما كان بعد ذلك من الخلاف بينه وبين معاوية بن أبي سفيان الذي انتهى بما انتهى إليه من مقتل علي كرم الله وجهه والتنكيل بآل البيت الكرام وهي محنة من أشد المحن التي تعرضت لها الأمة والدعوة الإسلامية.

ونختم بهذا الموقف الذي يبين بعض سجايا علي كرم الله وجهه. روى الشعبي قال: وجد علي رضي الله عنه درعاً له عند نصراني. فأقبل به إلى شريح القاضي. وجلس إلى جانبه وقال: لو كان خصمي مسلماً لساويته. وقال: هذه درعي. فقال النصراني: ما هي إلا درعي. ولم يكذب أمير المؤمنين ؟ فقال شريح لعلي: ألك بينة ؟ قال وهو يضحك: لا. فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيراً ثم عاد وقال: أشهد أن هذه أحكام الأنبياء. أمير المؤمنين قدمني إلى قاضيه. وقاضيه يقضي عليه. ثم أسلم واعترف أن الدرع سقطت من علي عند مسيره إلى صفين. ففرح علي بإسلامه ووهب له الدرع وفرساً (12). وهذا درس لحكام المسلمين ومحكوميهم على حد سواء. فهو لم يستخدم سطوة الحكم في استرداد ما يخصه. بل لجأ إلى القاضي. والقاضي لم يجامل علياً وهو أمير المؤمنين. بل حكم بشرع الله. والخصم رأى هذا النظام القضائي العادل النابع من الدين الحنيف الذي يسوي بين البشر في الحقوق والواجبات لا فرق بين مسلم وغير مسلم. ولا فرق بين حاكم ومحكوم. ولقد كانت خسارة الأمة الإسلامية فادحة بمقتل علي كرم الله وجهه الذي أبى أن يغادر الدنيا قبل أن يجمع ولديه من فاطمة رضي الله عنها الحسن والحسين وأخاهما محمد بن الحنفية فأوصاهم بتقوى الله وقول الحق ورحمة اليتيم ومخاصمة الظلم والظالمين ونصرة المظلومين ورعاية حق الرحم وإقامة الفرائض والحلم عن الجاهل والتفقه في الدين والتعاهد للقرآن وحسن الجوار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم كتب وصيته ولم ينطق إلا بلا إله إلا الله. رضي الله عنه وأرضاه.



المراجع

1- أخرجه الترمذي في المناقب: مناقب علي بن أبي طالب، ورواه أحمد في المسند 4/368

2- سورة آل عمران: آية 61.

3- أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب: من فضائل علي رضي الله عنه

4- رجال ونساء أنزل الله فيهم قرآناً: الدكتور عبد الرحمن عميرة مكتبة الأسرة المجلد الثالث الجزء العاشر. ص 13 - 14 نقلاً عن سيرة ابن هشام ج 1 ص 264

5- سورة الأحزاب: آية 33

6- من فضائل العشرة المبشرين بالجنة: محمود السعيد الطنطاوي. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة ط 2002 م 1423ه. ص 141.

7- أخرجه البخاري ومسلم في المغازي.

8- سورة التوبة: آيه 19.

9- من فضائل العشرة المبشرين بالجنة. ص 147 148.

10- المرجع نفسه ص 149.

11- رجال ونساء أنزل الله فيهم قرآناً: الجزء العاشر ص 25.

12- المصدر نفسه نقلاً عن الكامل لابن الأثير. ج 3 ص 401.