عناد المشركين ..... قصة آية

“وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً* أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً* أو تسقط السماء كما
زعمت علينا كسفاً أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً* أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه
قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً” (الإسراء) .

ذكر كتاب السيرة والمفسرون، وعلى رأسهم ابن إسحاق والطبري في تفسير هذه الآيات ما رووه عن ابن عباس: أن أشراف قريش من كل
قبيلة اجتمعوا عند غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد، فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه:
أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً، وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء، وكان
عليهم حريصاً يحب رشدهم، ويعز عليه عنتهم، حتى جلس إليهم .

فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين،
وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته في ما بيننا وبينك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً،
جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا، سودناك علينا، وإن كنت تريد ملكاً، ملكناك علينا، وإن كان هذا
الذي يأتيك بما يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك وكانوا يسمون التابع من الجن: الرئي فربما كان ذلك، بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه، أو نعذر فيك .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله تعالى
بعثني إليكم رسولاً، وأنزل علي كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالات ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو
حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم” .

ما بهذا بعثت لكم

فقالوا: يا محمد إن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضنا عليك، فإنك قد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلاداً، ولا أقل مالاً، ولا أشد عيشاً منا،
فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، وليبسط لنا بلادنا، وليفجر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق،
وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب، فإنه كان شيخاً صدوقاً، فنسألهم عما تقول: حق هو أو باطل؟،
فإن صنعت ما سألناك، وصدقوك، صدقناك، وعرفنا به منزلتك عند الله، وأنه بعثك إلينا رسولاً كما تقول .

فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بهذا بعثت لكم، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به، وقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم، فإن تقبلوه فهو حظكم في
الدنيا والآخرة، وإن تردوه أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم .
قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا، فخذ لنفسك، فسل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله فليجعل لك جنات وكنوزاً وقصوراً من ذهب
وفضة، ويغنيك بها عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس الرزق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم .
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً، فإن تقبلوا ما جئتكم به،
فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه علي، أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم .

قالوا: فأسقط السماء علينا كسفا، كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك، فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
“ذلك إلى الله عز وجل، إن شاء أن يفعله بكم فعله”، قالوا: يا محمد أما علم ربك أنا سنجلس معك، ونسألك عما سألناك عنه، ونطلب منك ما نطلب،
فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له: الرحمن،
وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً، فقد أعذرنا إليك يا محمد، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلك أو تهلكنا .
ونزلت الآيات الكريمة تحكي ما قالوا وفيها: “وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشراً رسولاً . قل لو كان في الأرض ملائكة
يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً” (سورة الإسراء) .

غدر بني النضير

“هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا
وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولي الأبصار” (الحشر: 3) .
الذين كفروا من أهل الكتاب هم رهط من اليهود كان أول استيطانهم بلاد العرب أن موسى عليه السلام كان أرسل طائفة من أسلافهم لقتال العماليق المجاورين
للشام وأرض العرب فقصروا في قتالهم وتوفي موسى قريبا من ذلك، فلما علموا بوفاة موسى رجعوا على أعقابهم إلى ديار “إسرائيل” في أريحا فقال لهم
قومهم: أنتم عصيتم أمر موسى فلا تدخلوا بلادنا، فخرجوا إلى جزيرة العرب وأقاموا لأنفسهم قرى حول يثرب (المدينة) وبنوا لأنفسهم حصونا وقرية سموها
الزهرة، وصاروا أهل زرع وأموال، وكان فيهم أهل الثراء مثل السموأل بن عاديا، وكعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق، وكان بينهم وبين الأوس والخزرج
حلف ومعاملة، فكان من بطون أولئك اليهود بنو النضير وقريظة وخيبر .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، هادنهم وأعطاهم عهدا وذمة على ألا يقاتلهم ولا يقاتلوه، وقبل منهم ألا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، فلما
غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرا وظهر على المشركين قالت بنو النضير: “والله إنه النبي الذي وجدنا نعته في التوراة لا ترد له راية فلما غزا أحدا
وهزم المسلمون أظهروا العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما وقعت واقعة بئر معونة التي قتل فيها سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
أفلت منهم عمرو بن أمية الضمري، فلما كان في أثناء الطريق راجعا إلى المدينة، قتل رجلين من بني عامر، وكان معهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأمان لم يعلم به عمرو، فلما رجع، وجاء بسلبهما إلى رسول الله قال صلى الله عليه وسلم: “بئس ما صنعت، قد كان لهم منا أمان وعهد”، فقال: ما شعرت،
كنت أراهما على شركهما، وكان قومهما قد نالوا منا ما نالوا من الغدر بنا، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبهما فعزل، حتى يبعث به مع ديتهما .

وكان بين بني النضير وبني عامر حلف وعهد، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليستعينهم في دية الرجلين، وكانت منازل بني النضير
شرق المدينة على بعد أميال منها، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت فصلى في مسجد قباء، ومعه رهط من المهاجرين والأنصار، ثم جاء بني النضير
ومعه دون العشرة من أصحابه، فوجدهم في ناديهم، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمهم أن يعينوه في دية الرجلين اللذين قتلهما عمرو بن أمية،
فقالوا: نفعل يا أبا القاسم ما أحببت، قد آن لك أن تزورنا وأن تأتينا، اجلس حتى تطعم وترجع لحاجتك، ونقوم فنتشاور ونصلح أمرنا في ما جئتنا به،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم مستند إلى بيت من بيوتهم .

ثم خلا بعضهم ببعض فتناجوا، فقال حيي بن أخطب: يا معشر يهود قد جاءكم محمد في نفر من أصحابه لا يبلغون عشرة، فاطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت
الذي هو تحته فاقتلوه، ولن تجدوه أخلى منه الساعة، فإنه إن قتل تفرق عنه أصحابه، فلحق من كان معه من قريش بحرمهم، وبقي من كان هاهنا من
الأوس والخزرج، فما كنتم تريدون أن تصنعوا يوما من الدهر فمن الآن، فقال عمرو بن جحاش: أنا لذلك، فصعد ليلقي عليه صخرة، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
الخبر من السماء بما أراد القوم، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا، كأنه يريد حاجة، وتوجه نحو المدينة، وجلس أصحابه يتحدثون وهم يظنون أنه
قام يقضي حاجة، واستبطأه الصحابة الذين كانوا معه، وقال أبو بكر: ما مقامنا هاهنا بشيء، لقد توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر، فقاموا في طلبه،
فقال حيي بن أخطب: لقد عجل أبو القاسم، كنا نريد أن نقضي حاجته ونقريه .

عاقبة نقض العهد

وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة بما كانت يهود أرادت من الغدر به، وأمر بالتهيؤ لحربهم والمسير إليهم، وأرسل إلى محمد بن مسلمة يدعوه،
فلما جاء أرسله النبي صلى الله عليه وسلم إلى يهود بني النضير برسالة مفادها “أن اخرجوا من بلدي”، فلما جاءهم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أرسلني إليكم يقول لكم: إنكم قد نقضتم العهد الذي جعلت لكم، بما هممتم به من الغدر بي”، ويقول: “اخرجوا من بلدي وقد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك
ضربت عنقه”، وأخبرهم بما كانوا هموا به وظهور عمرو بن جحاش على البيت ليطرح الصخرة، فأسكتوا، فلم يقولوا حرفا .

فمكثوا على ذلك أياما يتجهزون للخروج، فبينما هم على ذلك إذ أرسل إليهم عبدالله بن أبي بن سلول ألا يخرجوا من قريتهم وقال: إن قاتلكم المسلمون فنحن
معكم ولننصرنكم وإن أخرجتم لنخرجن معكم فدربوا على الأزقة (أي سدوا منافذ بعضها لبعض ليكون كل درب منها صالحاً للمدافعة) وحصنوها، ووعدهم أن
معه ألفين من قومه وغيرهم، وأن معهم قريظة وحلفاءهم من غطفان من العرب .

وسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل بهم، وحاصرهم، وهم متحصنون منه في حصونهم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع النخل والتحريق فيها،
وانتظروا عبدالله بن أبي ابن سلول وقريظة وغطفان أن يقدموا إليهم ليردوا عنهم جيش المسلمين، فلما رأوا أنهم لم ينجدوهم، قذف الله في قلوبهم الرعب،
فطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم الصلح، فأبى إلا الجلاء عن ديارهم، وأذعنوا إلى ذلك، وتشارطوا على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح،
فقبل النبي صلى الله عليه وسلم، فاحتملوا من أموالهم ما استقلت به الإبل، وكانوا في حصارهم يخربون بيوتهم مما يليهم، ليحملوا معهم ما ينتفعون به من
الخشب والأبواب، فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضع ما استطاع على ظهر بعيره، فينطلق به، فخرجوا إلى خيبر، ومنهم من سار إلى الشام، وخلوا الأموال
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت له خاصة، يضعها حيث يشاء، فقسمها على المهاجرين الأولين من دون الأنصار، ولم يسلم من بني النضير إلا رجلان:
يامين بن عمرو بن كعب عم عمرو بن جحاش، وأبو سعد بن وهب، أسلما على أموالهما، فأحرزاها .

ونزلت هذه الآية في بني النضير بل وسورة الحشر بأسرها، وقد روى البخاري عن سعيد بن جبير، قال قلت لابن عباس رضي الله عنهما سورة الحشر قال: قل سورة النضير .