القـــائـد - 1 -
1 ـ في ولاية عمرو بن العاص الثانية، التي بدأت سنة ثمان وثلاثين الهجرية، وانتهت بانتهاء حياته، سنة ثلاث وأربعين الهجرية، والتي كانت في خلافة معاوية بن أبي سفيان، لم يقتصر نشاط عمرو على القضايا الإدارية، بل شملت الفتوح، كما هو دأبه دائمًا، وكان مجال نشاطه في الفتوح هو ساحة ليبيا وإفريقية (تونس).
فقد عقد عمرو لشَريك بن سُمَيّ الغُطَيْفي على غزو لَوَاتَة (وقد تُضَمُّ لامُه)، فغزاهم شَرِيك في سنة أربعين، فصالحهم، ثم انتقضوا بعد ذلك على عمرو بن العاص، فبعث إليهم عُقبة بن نافع بن عبد القَيْس الفِهْري في سنة إحدى وأربعين الهجرية، فغزاهم، وانتهى عُقبة بن نافع إلى لَواتَة، ومزاتة في ليبيا، فأطاعوا ثم كفروا، فغزاهم في سنته، فقتل وسبى، ثم افتتح سنة اثنتين وأربعين الهجرية (غدامِس)، فقتل وسبى. وفتح سنة ثلاث وأربعين الهجرية (وَدَّان)، وهي من بَرقة، وافتتح عامة بلاد البربر، كما عقد عمرو لشريك مع عُقْبة سنة ثلاث وأربعين الهجرية، فلما قفلا كان شديد الدَّنف من مرض موته.
2 ـ وقد عوّدنا عمرو، أن يقود الفاتحين في ولايته إلى الفتوح، كما فعل في ولايته الأولى على مصر على عهد عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، رضي الله عنهما، حيث قاد جيش المسلمين، الذي فتح ليبيا، ولكنه في ولايته الأولى اختار قائدين من قادته لتأمين استمرارية الفتوح، ويبدو أن أسباب تَخَلِّيهِ عن القيادة هي: لتوطيد الأمن والاستقرار في مصر، قاعدة فتح إفريقية، بعد الهزّات العنيفة، التي اجتاحتها في أواخر عهد عثمان بن عفان، وفي أيام الفتنة الكبرى، وبعد الحروب التي عانتها، بين أهل الكوفة وأهل الشام، وانقسام أهلها شيعًا وأحزابًا.. والسبب الثاني، أنه أصبح شيخًا طاعنًا في السِنِّ لا يتحمّل أعباء الجهاد بما فيه من مشقة، وتضحية، وفداء، كما يتحمّلها الشباب والكهول.. والسبب الثالث: أن أمراض الشيخوخة، أصبحت تعتاده وتلازمه، ولا تكاد تفارقه إلا قليلاً.
ومنذ بدأ عمرو، يزاول مهنة القتال، ابتداءً من غزوة بدر الكبرى، التي كانت في شهر رمضان من السنة الثانية الهجرية، أصبح عمرو يمارس هذه المهنة بكفاية، ونجاح، ما دام قادرًا على حمل السيف.. كان من حُماة قافلة أبي سفيان، التي كانت السبب المباشر لغزوة بدر، وشهد غزوة أحد، التي كانت في شهر شوال، من السنة الثالثة الهجرية، مع المشركين على المسلمين، وشهد غزوة الأحزاب (الخندق)، التي كانت في شهر شوال من السنة الخامسة الهجرية مع المشركين على المسلمين أيضًا.
ولم يقض المدة بين غزوة أحد، وغزوة الأحزاب متعطّلاً، فقد كان يعمل على إعداد مشركي قريش للحرب، كما كان يعمل لحشد الأحزاب للحرب أيضًا، فكانت غزوة الأحزاب ثمرة من ثمرات جهوده المتواصلة مع أقرانه من أعداء الإسلام.
ولم يشهد عمرو غزوة الحُدَيبية مع المشركين، لأنه كان في سفارة لقريش لدى بلاط النجاشي ملك الحبشة، في محاولة طرد المسلمين من الحبشة، أو تسليمهم إلى مشركي قريش، ولكن سفارته الحبشية باءت بالإخفاق، لأن النجاشي لم يتجاوب مع عمرو، وحكّم عقله، ومنطقه، فرفض ما عرضه عليه عمرو رفضًا قاطعًا، فعاد عمرو إلى قريش خائبًا.
وأسلم عمرو في السنة الثامنة، فتولّى قيادة سرية من سرايا النبي صلى الله عليه و سلم، وشهد كثيرًا من غزواته، وكان سفيره إلى عُمان، وعامله عليها، ومن عمّاله على الصدقة أيضًا، كما ذكرنا ذلك بالتفصيل.
وبعد التحاق النبي صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى، سنة إحدى عشرة الهجرية، مضى عمرو في جهاده، فشهد حرب الردة، وشهد فتوح الشام، وفتح مصر وليبيا، ولم يتخلف عن الجهاد يومًا واحدًا، حتى عزله عثمان بن عفان عن مصر سنة سبع وعشرين الهجرية على أصح الأقوال.
لقد أمضى عمرو في الحرب ست سنوات، في قتال المسلمين (2هـ-8هـ)، وأمضي عشرين سنة في الجهاد، مع المسلمين قائدًا فاتحًا، وسفيرًا وإداريًا وجابيًا، وامتدّت ساحة عملياته من عُمان على الخليج العربي شرقًا، إلى مشارف تونس من البحر الأبيض المتوسط غربًا، في خدمة الإسلام والمسلمين.
ولم يكن عمرو قد تخلّى عن سيفه بعد عزله عن مصر مختارًا، بل كان مكرهًا، يتحيّن الفرصة السّانحة، ليعود إلى سيفه، أو يعود سيفه إليه، فلما انضم إلى معاوية، التحم في الاقتتال بين المسلمين في صِفِّين، وفي مصر مرة أخرى، حتى توفي سنة ثلاث وأربعين الهجرية، فسقط المحارب، دون أن يسقط السيف من يده.
3 ـ لقد أُتيحت لعمرو فرصة القتال، والجهاد، والاقتتال، من السنة الثالثة الهجرية، حتى سنة ثلاث وأربعين الهجرية، حمل السيف إحدى وثلاثين سنة منها مختارًا، وانتزع منه السيف عشر سنوات، أو نحوها قسرًا، أي أنه أمضى خمسة وسبعين بالمائة من سني حياته التي أتيحت له خلالها حمل السيف، مقاتلاً مجاهدًا، ومقتتلاً. وهو مقبل على سيفه، إقبال المحبّ الغاوي المحترف، مما أكسبه ممارسة طويلة لفنون القتال العملية، وتجربة عملية عريضة للقيادة في شتى الميادين، ومختلف الظروف والأحوال.
والتجربة العملية في الحرب، إحدى مزايا القائد العبقري الثلاث: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية.
وبدون شك، كان عمرو من ذوي الطبع الموهوب في القيادة، فهو يحب هذه المهنة، ويَطلبها ويُطَالِب بها، ويحرص عليها، ويغضب أشد الغضب، إذا جُرِّد منها، ويأوي إلى مَن يهبها له، وينفر ممّن لا يوفّرها له، وحتى إذا تولّى إمارة قطر من الأقطار، فإنه كان يُسَخِّر نفسَه للقيادة في ميدان الحرب، ولا يسخّرها للقضايا الإدارية، فهو يُؤْثِرُ أن يكون غازيًا، على أن يكون واليًا، ويفضِّلُ أخطارَ القتالِ على الراحة في القصور، دون أن تؤثِّر واجباته في الجهاد في واجباته الإدارية.
وقد نافس أبا عُبيدة بن الجراح، أمين الأمة، على القيادة في سرية ذات السلاسل، وكان بإمْرَة أبي عبيدة حينذاك أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وغيرهما من كبار الصحابة، فانصاع أبو عُبيدة لإرادة عمرو، وأصبح بإمرته، وأبو عبيدة هو مَن هو، سابقةً، وإيمانًا، وجهادًا.
كما أن عمرًا، كان ألمعيّ الذكاء، حاضر البديهة، راجح العقل، حكيمًا داهية من دُهاة العرب المعدودين.
أمّا علمه المكتسب، فقد كان كل عربي قبل الإسلام وبعده، يتعلّم فنون الحرب السائدة في حينه: الرماية، والفروسية، واستعمال السيف، والرمح، والأسلحة الأخرى، وممارسة التعبية الصغرى في استخدام الأرض لحمايته من الرصد، والرمي، والتعسكر.. وكان عمرو قارئًا، كاتبًا، ومن مثقفي العرب القلائل في أيامه، ممّا أعانه على اكتساب العلوم النظرية والعملية في فنون القتال.
فلا عجب أن يمتد نشاط عمرو القيادي من عُمان إلى تونس، عبر آلاف الأميال، في قارتين من قارات العالم: آسية، وإفريقية، ثم لا يرتدّ له لواء في حروبه، بل يقود رجاله من نصر إلى نصر، ويبقى فَتْحُهُ فتحًا مستدامًا عبر القرون والأحقاب، ممّا يثبت أنه كان قائدًا عبقريًا حقًّا.
4 ـ وصفات عمرو القيادية، واضحة كل الوضوح من معاركه ونتائجها، فقد كان قادرًا بكفاية نادرة على إصدار القرارات السريعة الصحيحة في مختلف الظروف والأحوال.. والقرار السريع الصحيح، يستند على عاملين رئيسين: القابلية العقلية للقائد أولاً، والحصول على المعلومات عن العدو والأرض ثانيًا.
وقد تطرّقنا إلى قابلية عمرو العقلية الفذة، بما فيه الكفاية، وبقي علينا أن نتطرّق إلى العامل الثاني، وهو الحصول على المعلومات عن العدو والأرض.
لقد كان عمرو، يقدّر حق التقدير قيمة الاستطلاع، لهذا كان يواجه عدوّه وهو يعرف عنه كل شيء تقريبًا، فيتحرّك نحوه مفتوح العينين في النور لا في الظلام.
فقد كان من أسباب نجاحه في سرية ذات السلاسل، أن أمّ العاص بن وائل والد عمرو من بني (بَلِيّ)، لذلك عاونه أخواله في تيسير مهمته، وأمدّوه بالمعلومات الضرورية لإحراز النصر.
وكان لمعرفة عمرو بطبيعة بلاد الشام وفلسطين بخاصة: طبيعة أرضها، ومناطقها المناسبة للقتال، وبالطرق التقريبية إلى تلك المناطق، وبمزايا أهلها المحلِّيين، ومزايا الروم الدخلاء، أثر حاسم في انتصاره على الرّوم وحلفائهم في معارك فتح بلاد الشام.
والظاهر أنه لم يكتف بالمعلومات المتيسرة لديه عن فلسطين بالذات، فأقدم على مغامرة استطلاعية فذّة، فقام باستطلاع شخصيّ لمقر قائد الروم (أرطبون)، واطّلع على نقاط الضعف في مواضع الروم، وقواتهم عامة، وقائدهم، وبذلك انتصر عليهم بعد مناوشات طالت كثيرًا، ولكن هذه المغامرة الاستطلاعية الخطيرة، كادت أن تكلّفه حياته، لولا دهاؤه، وحسن تخلّصه من موقفه العصيب.
وكان لزيارة مصر، التي قام بها عمرو قبل إسلامه، أثر كبير في معرفته أحوال مصر وأخبارها، طرقها، وطبيعة أرضها، ومدى الاضطهاد الديني والسياسي، الذي يعانيه المصريون من الروم، فلا عجب أن يُقدم عمرو على فتح مصر ، وبقيادته ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل فقط، إذ لولا تيسّر المعلومات الكافية لديه عن مصر، وأهلها، وعداوتهم للروم، واستعدادهم لمعاونة المسلمين دون الروم، لما كان من المعقول أن يُقدم على فتح مصر بمثل هذا العدد الضئيل من الرجال.
5 ـ وكان عمرو يتمتع بحاسة متميزّة لتأثير طبيعة الأرض في سير القتال، فهو الذي أشار على قادة المسلمين في بلاد الشام بالاجتماع في اليرموك، فلما نزل الروم معسكرهم، انتقل المسلمون من معسكرهم القديم إلى معسكر جديد مناسب، فنزلوا على طريق انسحاب الروم، وليس للرّوم طريق إلا على المسلمين!.. حينذاك هتف عمرو: (أيها الناس! أبشروا، حُصرت والله الروم، وقلّما جاء محصور بخير).
وكما كان يحرص على جمع المعلومات عن العدو والأرض، كان يحرص على منع العدو من جمع المعلومات عن قواته وأرضه. فقد منع رجاله في سرية ذات السلاسل -وفيهم كبار الصحابة: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عنهم، وغيرهم من كبار المهاجرين والأنصار- من إشعال النار ليلاً، على الرغم من شدة البرد وقسوته، ليحول دون كشف مواضعهم للعدو، وكشف عددهم القليل للعدو أيضًا.
وهذا المثال يدل على إيمان عمرو بأهمية الضبط، والطاعة، والسيطرة، لذلك كان يفرض على رجاله ضبطًا عاليًا، ويطالبهم بالطاعة المطلقة لأوامره، ويسيطر عليهم سيطرة تامة، وهو يدل على شدة ضبط عمرو، وسيطرته النافذة على مرؤوسيه، بصرف النظر عن قيمتهم الاجتماعية، والدينية، والسياسية.
6 ـ وكان على جانب عظيم من الشجاعة الشخصية، فقد كان من فرسان قريش، وأبطالهم في الجاهلية، مذكورًا بذلك فيهم، وكان جريئًا مِقْدامًا، وقد وصفه عثمان بن عفان لعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، بقوله: (إن عَمْرًا لَمُجَرَّأٌ، وفيه إقدامٌ، وحبٌّ للإمارة ...)، وقد باشر القتال في القلب أيام صفين، فلما كان يوم من تلك الأيام، اقتتل أهل العراق، وأهل الشام حتى غابت الشمس، ثم اقتتلوا ساعة من الليل، حتى كثرت القتلى بينهم، فصاح عمرو بأصحابه: (الأرض... الأرض... يا أهل الشام!) فترجّلوا ودبَّ بهم، وترجّل أهل العراق أيضًا، فكان عمرو يقاتل وهو يقول:
وصَبَرْنا على مَواطِنِ ضَنْكٍ
وخُطوبٍ تُري البياض الوليدا
فأقبل رجل من أهل العراق، فضرب عمرًا ضربةً جَرَحَهُ على العاتق، فأَدْرَكَهُ عمرو فضربهُ ضربةً قضت عليه.
ومَوَاقِفُهُ البطولية، التي تدل على شجاعته الشخصية، أكثر من أن تُعدّ وتُحصى.
7 ـ ولكنه كان يحارب بعقله، كما كان يحارب بسيفه، بل كان عقله أمضى حَدًّا من سيفه، فيستعمل عقله في الحرب، أكثر مما يستعمل سيفه.
لقد حاول أن يحوِّل القتال بين عليّ ومعاوية، من حرب السيوف إلى حرب العقول، لكي يشلّ قوة رجال عليّ وطاقاتهم القتالية، ويفرّق بين صفوفهم.
وعمل جاهدًا على تشكيك عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، بأخلص رجاله وأعوانه، وأغرى قسمًا من أهل الكوفة بالمال والوعود، ليكونوا رَتَلاً خامسًا بين صفوف رجال عليّ بن أبي طالب.
ولما حاقت الهزيمة بأهل الشام في صفين، أشار عمرو على معاوية بن أبي سفيان برفع المصاحف، فنشب الخلاف بين رجال عليّ بن أبي طالب، منهم مَنْ أجاب، ومنه مَن خالف، لعلمه بأن رفع المصاحف خدعة، وبذلك نجا أهل الشام من اندحار أكيد، وتفرّق شمل أصحاب عليّ من أهل العراق، فلم يجتمع شملهم بعدها أبدًا.
ففي فتح مصر، استهان القِبط بالفاتحين، وقال قائلهم: (ما أرَثَّ العرب، ما رأينا مِثْلَنَا دان لمِثْلِهِم)، فخاف عمرو أن يطمّعهم ذلك، فأرى عمرو المصريين حال العرب في بلادهم قبل الفتح، وكيف أصبحوا بعد الفتح في تمتعهم بأسباب الحياة، وحالهم في الحرب، ثم قال للمصريين: (علمتُ حالكم حين رأيتم اقتصاد العرب، فخشيتُ أن تهلكوا، فأحببتُ أن أريكم حالهم في أرضهم كيف كانت، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فقد رأيتم ظفرهم بكم، وذلك عيشهم، وقد كَلِبوا على بلادكم بما نالوا في اليوم الثاني، فأردت أن تعلموا أنّ ما رأيتم في اليوم الثالث، غير تارك عيش اليوم الثاني، وراجع إلى عيش اليوم الأول).
وتفرّق المصريون وهم يقولون: (لقد رمتكم العرب برجلهم).
وبلغ عمر بن الخطاب ذلك، فقال: (والله إنّ حربه لَلَيِّنة، مالها سطوة ولا سَوْرة كسَوْرات الحروب من غيره).
لقد كان عمرو يجيد حرب الدعاية، ويؤمن بمبدأ: الحرب خُدعة.
وكان يحارب بعقله وسيفه، ولا يحارب بسيفه إلا إذا أعيته الحرب بعقله، ولم يبق أمامه لتحقيق أهدافه إلا السيف، وكان يمتلك في الحربين الشجاعة الشخصية، التي تقود إلى النصر ولا تقود إلى الهزيمة.
8 ـ وكان يتحلّى بالإرادة القوية الثابتة، قبل إسلامه، وبعد إسلامه، حتى مضى إلى جوار الله.
كانت إرادته القوية الثابتة قبل إسلامه، تتركّز على محاربة الإسلام والمسلمين، فحارب هذا الدين، والذين اعتنقوه، حربًا لا هوادة فيها في ميدان القتال، فقاتل المسلمين في أُحُد والأحزاب.
وكانت تلك الإرادة تتركّز بعد إسلامه في خدمة الإسلام والمسلمين، فحقّق ذلك عن طريق سفارته النبوية، وولايته على عُمان، وتولّيه جمع الصدقات -أحد أعمالها- للنبي صلى الله عليه و سلم، فلما التحق النبي صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى، حقّق إرادته في خدمة الإسلام والمسلمين عن طريق حرب الردة، وفتوح الشام ومصر وليبيا، والتمهيد المؤثِّر في فتح إفريقية.
ولكن إرادته القوية الثابتة، تتمثل في تحقيق طموحه في فتح مصر، وإقناع عمر بن الخطاب للموافقة على هذا الفتح، ومسيرته الطويلة الشاقة في فتح مصر ، بالسيف تارة، وبالمفاوضات تارة أخرى، وبالقتال مرة، وبالسلام مرة أخرى، حتى حقّق طموحه في فتح مصر.
ولما انتزع عثمان بن عفان منه مصر، وجّه إرادته لزعزعة مركز عثمان عن الخلافة، ولكن خليفة عثمان، وهو علي بن أبي طالب، لم يحقق له طموحه في تولّي مصر، فوجّه إرادته القوية مع معاوية على' عليّ من أجل ولاية مصر، حتى تحقق له ما أراد بإرادته القوة التي لا تلين.
إن إرادة عمرو القوية الثابتة، تبدو واضحة على كل أعماله، إنسانًا، وقائدًا، وإداريًا، وسفيرًا.
9 ـ وكان يتحمّل المسؤولية، ويحبّها ولا يتهرّب منها، ولا يلقيها على عواتق الآخرين خوفًا من عواقبها، وبخاصة في حالات الإخفاق.
وقد نافس أبا عبيدة بن الجراح على الإمارة في سرية ذات السلاسل، على عهد النبي صلى الله عليه و سلم، فرضخ أبو عبيدة لعمرو، خوفًا من الاختلاف.
وكان يطمح أن يتولى القيادة العامة في فتح بلاد الشام، منافسًا في ذلك أبا عُبيدة بن الجراح دون أن ينافسه أبو عبيدة، فكانت المنافسة من طرف واحد، ولكنّ أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، لم يحقق له هذا الطموح، ولم يؤيّده عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولم يعاونه في تحقيق ما طمح له من منصب رفيع.
والتطلع إلى الإمارة بما فيها من مسؤوليات جسام، يدلّ على أن الذي يتطلّع إليها، يحبّ المسؤولية، ولا يتهرّب منها، أو يبتعد عنها بالوقوف في الظلّ مغمورًا لا يعرف الناس، ولا يعرفه الناس.
ولا يقتصر حب عمرو للمسؤولية على قيادته العسكرية، بل يتعدّاها إلى مختلف نشاطه، في الجانب غير العسكري من حياته، فإقدامه على الاجتهاد في الدين، والنبي صلى الله عليه و سلم على قيد الحياة، والقرآن الكريم ينزل، وعَرْضِه وجهةَ نظره في اجتهاده للنبي صلى الله عليه و سلم -كما حدث بعد عودته من سرية ذات السلاسل- دليل على حبه للمسؤولية الأدبية الكاملة، وتمسكه بمسؤوليته الكاملة، دون خوف أو وَجَل.
لقد كان عمرو بحق يحب المسئولية، ويريدها لنفسه، ويطالب بها، ولا يستطيع الصبر على التخلي عنها طويلاً.
10 ـ وكانت له نفسية لا تتبدّل في حالتي النصر والاندحار، والواقع أنه لم يُصب باندحار حقيقي في معاركه، بل أصيب بمواقف حرجة للغاية، كموقفه بعد رِدّة العرب، فمرّ في طريقه من عُمان إلى المدينة المنورة بمُسَيلَمة الكذاب في ديار بني حَنيفة في طريق عودته إلى المدينة، فما انهارت معنوياته، ولا استكان، ولا هان، بل استطاع التخلص من مُسيلمة، الذي كان يقضي بالموت على المسلم، الذي لا يرتدّ عن دينه ويتبع مُسيلمة، وبخاصة إذا كان من قُريش، وكان من قادة قريش، ومن ولاة النبي صلى الله عليه و سلم وقادته وسفرائه، ومن المسلمين البارزين.
ولم تتبدّل نفسية عمرو، حين تأخر فتح الإسكندرية، حتى سمع لوم عمر بن الخطاب، وتقريعه على التأخير، بل بقي يفكّر، ويدبّر، ويستشير، ويخطط، حتى تمّ له فتح الإسكندية بالصبر، والمعاناة، والعمل الدائب، وثبات المعنويات.
ولعلّ تبدّل النفس البشرية، تكون في حالة النصر أشد خطرًا من حالة الاندحار، إذ تصاب النفس بالغرور، والكبرياء، والاستعلاء، والظلم، والعدوان، وقد انتصر عمرو كثيرًا، فما عرفنا أن نفسيته تبدّلت في حالة النصر، فوقع في شباك الأنفس الأمّارة بالسوء، بل بقيت نفسيته كما كانت، تلتزم بالحق وتأمر به، وتبتعد عن الظلم، وتنهى عنه، ولا تتقاذفها الهواجس والانفعالات.
11 ـ وكان يتمتّع بمزية سبق النظر، يحسب لكل شيء حسابه بدقة وإتقان، ولا يترك أمرًا مهما يكن طفيفًا تحت رحمة الصُّدَف، وحين فزع أهل المدينة المنوّرة على عهد النبي صلى الله عليه و سلم، لبس عمرو سلاحه، وقصد المسجد، على حين تفرّق المسلمون، فخطب رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقال: (ألا كان مفزعكم إلى الله ورسوله ؟! ألا فَعَلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان)، والرجلان كانا: عمرو بن العاص، وسالم مولى أبي حُذيفة.
كما أن بُعد نظره، يجعله يحول بين رجاله، وبين مطاردة قُضاعة بعد هزيمتها في سرية ذات السلاسل، خوفًا من وجود مددٍ لها، فيقع رجاله في كمين، يكبّدهم خسائر فادحة، أو يجعلهم يقاتلون عدوًّا متفوقًا عليهم دون مسوِّغ.
وكلّ المعارك التي خاضها في حرب الرّدة، وفي فتوح الشام، ومصر، وليبيا، فيها شواهد كثيرة على تمتعه بمزيّة بُعد النظر، كما أن أعماله غير العسكرية في الإدارة والسياسة، وحتى في علاقاته الشخصية، كان بعيد النظر، يقظًا أشد اليقظة، حذرًا أشد الحذر، وكان في قيادته لا ينام، ولا يُنِيم، تَحَسُّبًا لأسوأ الاحتمالات، فلا يؤخذ على حين غُرّة أبدًا.
12 ـ وكان من أولئك القادة، الذي يعرفون حق المعرفة نفسيات رجاله، وقابلياتهم، لأنه يُعايشهم في حلّهم وترحالهم، وأمنهم وخوفهم، وسلمهم وحربهم، أكثر مما يعايش أهله الأقربين، ويعيش بينهم أكثر مما يعيش بين أهله وعشيرته.
وهذه المعرفة الوثيقة، جعلته يكلّف كل فرد من أفراد قواته بالواجب الذي يناسب نفسيته، ويقارب كفايته، ويجعله يُقبل على واجبه إقبال محب له، لا كاره، وقادر عليه لا عاجز عنه، مما جعل رجاله ينهضون بواجباتهم بشوق، ولهفة، وحماسة، وينجحون في أدائها نجاحًا كبيرًا.
وبالنسبة للنفسيات والقابليات، كان يلقي على عواتق قسم منهم، واجبات القتال الفرديّ، وعلى قسم منهم واجبات القيادات، التي تعمل بسيطرته المباشرة، وعلى قسم منهم واجبات القيادة التي تعمل بسيطرته غير المباشرة، كالقيادة المستقلّة في فتح أنحاء مصر بعد استسلام حصن بابليون في المعركة الحاسمة، كما كان يكلّف قسمًا منهم بواجب السفراء بينه وبين العدو، وواجب المفاوضين، وغيرها من الواجبات الأخرى، التي جاء ذكرها في معاركه الكثيرة شرقًا وغربًا.
والسبب الوحيد لنجاح رجاله في أداء الواجبات، التي ألقاها عمرو على عواتقهم; هو معرفته التامة بنفسيات وقابليات رجاله، فكان يضع الرجل المناسب في الواجب المناسب.
ويبدو أنه كان في تعيينه القادة المرؤوسين بخاصة، واختيار الإداريين ورجال الشرطة، والقضاة، لا يتأثر إلا بالكفايات العالية المتميزة، والإيمان الصادق العميق.. واستعراض أسماء قادته المرؤوسين، وأصحاب المناصب الأخرى، الذين اختارهم عمرو، خير دليل على ذلك.
13 ـ وكان يثق برجاله ثقة تامة، ويثقون به ثقة لا حدود لها. والدليل على ثقته برجاله هو أنه كان يقودهم مدة طويلة في فتوح بلاد الشام، وعندما سُمح له بفتح مصر، اختار رجاله من الذين عملوا بقيادته ردحًا طويلاً، وخَبَر كفاياتهم، ومزاياهم، ونفسياتهم، ولولا ثقته الكاملة بهم، لما أقدم على محاولة فتح مصر، وعددهم يومئذ كان ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، لأن تعداد رجاله بالنسبة لواجبهم في الفتح قليل جدًا، ولكنه أقدم على محاولة فتح مصر، وبقيادته هؤلاء الرجال القليلون عَدَدًا، لأنه كان يثق بهم ثقة تامة.
وقد أثبتت قوات عمرو بأنها حَرِيّة بثقته الكاملة، فقد أنجزت له واجبات الفتوح بصورة تدعو إلى التقدير والإعجاب، كما أنها صبرت على حصار حصن بابليون سبعة أشهر، حتى استطاعت فتحه، وصبرت ثلاثة أشهر على حصار الإسكندرية، حتى استطاعت فتحها، ومن المعلوم أن الجيش الذي يصبر على الحصار طويلاً يُعَدّ من الجيوش ذات التدريب العالي، والضبط المتين، والمعنويات الرفيعة، ومثل هذا الجيش يستحق كل الثقة من قائده في كل زمان ومكان، وفي مختلف الظروف والأحوال.
أما ثقة رجال عمرو بعمرو، فلأنه قائد منتصر، يقود رجاله من نصر إلى نصر، ولأنه يضرب أروع الأمثال لرجاله في التضحية والفداء، فكان يقود رجاله من الأمام، يقول لهم: اتبعوني، ولا يقودهم من الخلف، فيأمرهم بالتقدّم، ويقبع هو في موقع أمين بعيد عن الأخطار.
14 ـ وكان يستأثر بالخطر، ويؤثر رجاله بالأمن، فيدخل حصون أعدائه، ويحاور قادة الأعداء، ويعرّض نفسه لأفدح الأخطـار، ولا يستأثر بالخير دونهم، ولا يترفع عنهم، ويعاملهم معاملة الآباء للأبناء.
وكانت أخلاقه الشخصية رضيّة جدًا، وهو القائل: (ما أفحشتُ قطُّ إلا في ثلاث مرات: مرتين في الجاهلية، وهذه الثالثة، وما منهن مرة إلا وقد ندمت واستحييتُ، وما استحييتُ من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلتُ لك، والله! إني لأرجو ألا أعود إلى الرابعة ما حييتُ)، وكان قد قال لرجل من رجاله في ساحة القتال كلمة نابية، فقال له: (استغفر لي ما كنتُ قلتُ لك)، فاستغفر له الرجل.
وقد وصفه رجل من تُقاة المسلمين فقال: (صحبتُ عمرو بن العاص، فما رأيتُ رجلاً أبين قرآنًا، ولا أكرم خُلُقًا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه).
وكما كان موضع ثقة رجاله، كان موضع ثقة رؤسائه، فقد كان أحد سفراء النبي صلى الله عليه و سلم، وأحد قادته، وأحد ولاته، وأحد عمّاله على الصدقات، ولا أعرف صحابيًا غير عمرو تولّى للنبي صلى الله عليه و سلم كل هذه المناصب السياسية، والعسكرية، والإدارية، والمالية، في حياته المباركة، مما يدل على ثقة النبي صلى الله عليه و سلم بعمرو سياسيًا، وعسكريًا، وإداريًا، وماليًا، كما كلّفه بالقضاء في قضية من القضايا، وكان من أصحاب الفُتيا في الصحابة، والمجتهدين بالدين في حياة النبي صلى الله عليه و سلم، مما يدل على ثقته بعلم عمرو وكفايته القضائية.
وكان موضع ثقة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، فقد كان أحد قادته، وكان موضع ثقة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذ كان أحد قادته وولاته، وكان موضع ثقة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، لأنه كان أحد قادته وولاته، وقد عزله عن مصر، لأنه يستطيع أن يسيطر على خَلَفِه، ولا يستطيع السيطرة عليه، وكان بعد عزله عن مصر موضع استشارة، فيما يعرض من معضلات جسام، مما يدل على أنه كان موضع ثقته، حتى بعد عزله عن مصر، وتوتر العلاقات الشخصية بين الرجلين.
وقد فرّقت السياسة، بين الإمام عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، بعد توليه الخلافة، وبين عمرو بن العاص، الذي كان يطمح باستعادة ولايته على مصر، والسياسة لا تتدخل في شيء إلا أفسدته، وإلا فلا يمكن أن يكون الإمام عليّ يجهل مكان ومكانة عمرو، وأهميته القصوى للدولة الإسلامية الفتية، قائدًا، وإداريًا، وسياسيًا، ومفكّرًا، كما أن عمرًا لا يمكن أن ينكر مكان عليّ، ومكانته وأهميته القصوى للدولة الإسلامية الفتية خليفة من الخلفاء الراشدين المهديين.
أما الثقة، بين معاوية بن أبي سفيان، وعمرو، فمعروفة، وهي أشهر من أن تكون بحاجة إلى إيضاح أو تفصيل.
ومن الطبيعي أن يثق بالقائد المنتصر، الذي يقود رجاله من الأمام، ويضرب لهم أروع الأمثال، في الشجاعة والإقدام، والتضحية، والفداء، والذي يتحلّى بالخلق الكريم، والكفاية العالية، رجاله الذين يعملون بقيادته، ورؤساؤه الذين يعمل بإمرتهم، ويكون موضع ثقة أمته عامة، وأن يبادلهم ثقة بثقة.. والثقة المتبادلة هي التي تشيع الانسجام، والضبط، والتعاون، بين الرئيس والمرؤوس، والقائد والمقود، من أجل تحقيق النصر المؤزّر.
ولا يمكن أن ينتصر قائد لا يثق به رجاله، ولا قائد لا يثق برجاله، فالثقة المتبادلة من العوامل الحاسمة، لإحراز النصر بين القادة من جهة، والرجال من جهة أخرى.
15 ـ وكان يحب رجاله، وكان رجاله يحبونه، وكانت المحبة المتبادلة شائعة بين القيادة والجنود، وقدقال له حرسه حين حضرته الوفاة: (كنتَ لنا صحاب صِدْق، تكرمنا وتعطينا، وتفعل وتفعل)، مما كان ينعم به عليهم، ويهبه لهم، ويكرمهم به.
ولكن عمرًا، كان يعرف واجباته، فيؤديها كاملة، ويحاسب نفسه على أدائها، قبل أن يحاسبه غيرُهُ، ويعرف حقوقه، فيطالب بها، ويحاسب غيره عليها، ولا يتغاضى عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
كما كان يعرف حقوق رجاله، فيؤديها لهم أداءً كاملاً، ويعرف واجباتهم، فلا يسكت على إهمالها، أو أدائها غير كاملة، أو بشكل غير متقن.
والمحبة المتبادلة شيء، والحقوق والواجبات شيء آخر، وما كانت المحبة المتبادلة تؤثر في مجرى حقوق عمرو، وواجباته، وحقوق رجاله وواجباتهم.
وقد كان رجل ممّن خرج مع عمرو، حين خرج من الشام إلى مصر، أُصيب بجملٍ له، فأتى إلى عمرو يستحمله، فقال له عمرو: (تحمّل مع صحابك حتى تبلغ أوائل العامر)، فلما بلغوا العريش جاءه، فأمر له بجملين، ثم قال: (لن تزالوا بخير، ما رحمتكم أئمتكم، فإذا لم يرحموكم هلكتم وهلكوا).
وكان الذين لا يعرفون عمرو بن العاص، لا يستطيعون أن يميزوه عن رجاله في شيء، إذ كان كأحدهم: (ما يُعْرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد)، كما وصف رسل المُقَوْقس عمرو بن العاص ورجاله.
وكان عمرو يرفق بالحيوان الضعيف، وإنما سمّيت الفسطاط، لأن عَمرًا لما أراد التوجه إلى الإسكندرية، لقتال مَن بها من الروم، أمر بنزع فسطاطه، فإذا فيه يَمَامٌ قد فرَّخ، فقال عمرو: (لقد تحرّم منا بمتحرّم)، وأمر بالفسطاط، فأُقر كما هو، وأوصى به مَنْ بقي، ولما قفل المسلمون من الإسكندرية، قالوا: أين ننزل؟ قالوا: الفسطاط، لفسطاط عمرو، الذي كان خَلَّفه.. فإذا كان هذا مبلغ رفقه بالحيوان، فهو برجاله أرفق.
ولكن حبّه العميق لرجاله، لم يكن يمنعه أن يحثّهم على أداء واجباتهم الكاملة، فقد كان عمرو يُذَمِّر المسلمين، ويحثّهم على الثبات، فقال له رجل من اليمن: (إنّا لم نُخلَق من حجارة، ولا من حديد) وعمرو كان يريد رجاله في أداء واجباتهم حجارة وحديدًا في صلابتهم، لا يكلّون ولا يملّون.
وحين أراد رجاله أن يوقدوا نارًا في ليلة شاتية قاسية البرد، مَنعهم عمرو، وهدّد من يوقد النار بقذفه فيها، وكان ذلك في غزوة ذات السلاسل، على عهد النبي صلى الله عليه و سلم، وهذا دليل جديد على حب عمرو لرجاله، لأنه لو سمح لهم بإيقاد النار، لاكتشف عدوُّهُم قلَّتَهم، واستمكن مواضعهم، ولقضى عليهم بسهولة ويسر.
وقد كان عمرو يحبّ أخاه هشام بن العاص، حبًا عظيمًا، ويفضّله على نفسه، كما ذكرنا، وكان هشام يعمل بقيادة أخيه عمرو في معركة أَجْنَادَيْن، من معارك فتوح الشام، ولما انهزم الروم يوم أجنادين انتهوا إلى موضع لا يعبره إلا إنسان، فجعلت الروم تُقاتل عليه، وقد تقدّموه وعبروه، وتقدّم هشام فقاتل عليه، حتى قُتل، ووقع على تلك الثُّلْمة فسدّها، ولما انتهى المسلمون إليها هابوا أن يُوطئوه الخيلَ، فقال عمرو: (أيها الناس! إن الله قد استشهده، ورفع روحه، وإنما هو جُثَّة فأوطئوه الخيل)، ثم أوطأه هو، وتبعه الناس حتى قطعوه. ولما انتهت الهزيمة، ورجع المسلمون إلى العسكر، كرّ إليه عمرو، فجعل يجمع لحمه وأعضاءه، وعِظامه، ثم حمله في نَطْع فَوَارَاه.
لقد كان عمرو من أولئك القادة، الذين يبادلون رجالهم حُبًّا بحب، ولكن ليس على حساب الواجب، ولا تناقض بين المحبّة المتبادلة، والحرص على الواجب لدى القائد حقًّا ورجاله، فهما متلازمان، وعليهما تُبنى الثقة المتبادلة، التي لا تكون إلا بالمحبة المتبادلة، والعمل الدائب المتواصل من أجل إحراز النصر.