التطرف بين الحقيقة والاتهام
يقول علماء المنطق: الحكم على الشيء فرع عن تصوره، إذ لا يمكن الحكم على المجهول، كما لا يمكن الحكم على شيء مختلف في تحديد ماهيته، وتصوير حقيقته: أي شيء هي؟
لهذا كان علينا بادئ ذي بدء أن نكشف عن معنى "التطرف الديني " وحقيقته وأبرز علاماته.
والتطرف في اللغة معناه: الوقوف في الطرف، بعيداً عن الوسط، وأصله في الحسيات، كالتطرف في الوقوف أو الجلوس أو المشي، ثم انتقل إلى المعنويات، كالتطرف في الدين أو الفكر أو السلوك.
ومن لوازم التطرف: أنه أقرب إلى المهلكة والخطر، وأبعد عن الحماية والأمان، وفي هذا قال الشاعر:
كانت هي الوسط المحمى فاكتنفت بها الحوادث، حتى أصبحت طرفاً!
دعوة الإسلام إلى الوسطية وتحذيره من التطرف
والإسلام منهج وسط في كل شيء: في التصور والاعتقاد، والتعبد والتنسك، والأخلاق والسلوك، والمعاملة والتشريع.
وهذا المنهج هو الذي سماه الله "الصراط المستقيم " وهو منهج متميز عن طرق أصحاب الديانات والفلسفات الأخرى من "المغضوب عليهم " ومن "الضالين " الذين لا تخلو مناهجهم من غلو أو تفريط.
و "الوسطية " إحدى الخصائص العامة للإسلام، وهي إحدى المعالم الأساسية التي ميز الله بها أمته عن غيرها ((كذلِك جعلناكم أمّةً وسطاً لِتكونوا شُهداء على الناس )) [البقرة:143 ]، فهي أمة العدل والاعتدال، التي تشهد في الدنيا والآخرة على كل انحراف يميناً أو شمالاً عن خط الوسط المستقيم.
النصوص الشرعية تعبر عن التطرف بـ "الغلو "
والنصوص الإسلامية تدعو إلى الاعتدال، وتحذر من التطرف، الذي يعبر عنه في لسان الشرع بعدة ألفاظ منها: "الغلو " و"التنطع " و "التشديد ".
والواقع أن الذي ينظر في هذه النصوص يتبين بوضوح أن الإسلام ينفر أشد النفور من هذا الغلو، ويحذر منه أشد التحذير.
وحسبنا أن نقرأ هذه الأحاديث الكريمة، لنعلم إلى أي حد ينهى الإسلام عن الغلو، ويخوف من مغبته.
1- روى الإمام أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجه في سننهما، والحاكم في مستدركه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إيّاكم والغلو في الدين، فإنما هلك من قبلكم بالغلو في الدين " قال شاكر: إسناده صحيح، ونقل المناوي في الفيض: 3/126 عن ابن تيمية قوله: هذا إسناد صحيح على شرط مسلم .
والمراد بمن قبلنا: أهل الأديان السابقة، وخاصة أهل الكتاب، وعلى الأخص: النصارى، وقد خاطبهم القرآن بقوله: ((قل يا أهْل الكتابِ لا تغْلوا في دينكم غيْر الحقِّ ولا تتَّبِعوا أهواء قومٍ قدْ ضلُّوا مِنْ قبل وأضّلُّوا كثيراً وضلُّوا عن سواءٍ السّبيل )) [المائدة:77 ]، فنهانا أن نغلو كما غلوا، والسعيد من اتعظ بغيره.
وسبب ورود الحديث ينبهنا إلى أمر مهم، وهو أن الغلو قد يبدأ بشيء صغير، ثم تتسع دائرته، ويتطاير شرره، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم حين وصل المزدلفة في حجة الوداع قال: لابن عباس: هلمّ القط لي ـ أي حصيات ليرمي بها في منى ـ قال: فلقطت له حصيات من حصى الخذف - يعني حصى صغاراً مما يخذف به - فلما وضعهن في يده، قال: نعم بأمثال هؤلاء، وإيّاكم والغلو في الدين... الحديث يعني: لا ينبغي أن يتنطعوا فيقولوا: الرمي بكبار الحصى أبلغ من الصغار، فيدخل عليهم الغلو شيئاً فشيئاً، فلهذا حذرهم.
وقال الإمام ابن تيمية: قوله "إيَّاكم والغلو في الدين " عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال، والغلو: مجاوزة الحد... والنصارى أكثر غلوًا في الاعتقاد والعمل من سائر الطوائف، وإياهم نهى الله عن الغلو في القرآن، بقوله تعالى: ((لا تغْلوا في دينِكُم ْ)) [النساء:171 ].
2 - وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هلك المتنطعون " قالها ثلاثاً. (رواه مسلم، ونسبه السيوطي إلى أحمد وأبي داود أيضا ً).
قال الإمام النووي: أي المتعمقون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم.
ونلاحظ أن هذا الحديث والذي قبله جعلا عاقبة "الغلو والتنطع " هي الهلاك، وهو يشمل هلاك الدين والدنيا، وأي خسارة أشد من الهلاك، وكفى بهذا زجراً.
3 - وروى أبو يعلى في مسنده عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا تشددوا على أنفسكم، فيشدّد عليكم، فإن قوماً شددوا على أنفسهم، فشُدد عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات: رهْبانِيّةً ابتدعُوها ما كتَبْناها عليهِمْ )) [ذكره ابن كثير تفسير سورة الحديد ].
ومن أجل ذلك قاوم النبي صلى الله عليه وسلم كل اتجاه ينزع إلى الغلو في التدين، وأنكر على من بالغ من أصحابه في التعبد والتقشف، مبالغة تخرجه عن حد الاعتدال الذي جاء به الإسلام، ووازن به بين الروحية والمادية، ووفق بفضله بين الدين والدنيا، وبين حظ النفس من الحياة وحق الرب في العبادة، التي خلق لها الإنسان.
فقد شرع الإسلام من العبادات ما يزكي نفس الفرد، ويرقى به روحياً ومادياً، وما ينهض بالجماعة كلها، ويقيمها على أساس من الأخوة والتكافل، دون أن يعطل مهمة الإنسان في عمارة الأرض، فالصلاة والزكاة والصيام والحج، عبادات فردية واجتماعية في نفس الوقت، فهي لا تعزل المسلم عن الحياة ولا عن المجتمع، بل تزيده ارتباطاً به، شعورياً وعملياً، ومن هنا لم يشرع الإسلام "الرهبانية " التي تفرض على الإنسان العزلة عن الحياة وطيباتها، والعمل لتنميتها وترقيتها، بل يعتبر الأرض كلها محراباً كبيراً للمؤمن، ويعتبر العمل فيها عبادة وجهاداً، إذا صحت فيه النية، والتزمت حدود الله تعالى.
ولا يقر ما دعت إليه الديانات والفلسفات الأخرى من إهمال الحياة المادية لأجل الحياة الروحية، ومن حرمان البدن وتعذيبه حتى تصفو الروح وترقى، ومن إهدار شأن الدنيا من أجل الآخرة، فقد جاء بالتوازن في هذا كله ((ربَّنا آتِنا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً )) [البقرة:201 ]. "اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي " [رواه مسلم في صحيحه ] "إنّ لبدنك عليك حقًّا " [متفق عليهٍ ].
لقد أنكر القرآن، بل شدد النكير، على أصحاب هذه النزعة في تحريم الطيبات والزينة التي أخرج الله لعباده، فقال تعالى في القرآن المكي: ((يا بني آدم خُذوا زينتكم عِند كلِّ مسجدٍ وكُلوا واشربوا ولا تُسرفوا إنّه لا يُحبُّ المُسرفين. قُل مَنْ حرّم زينة اللهِ التي أخرج لِعبادهِ والطّيِّبات من الرِّزْق ِ)) [الأعراف:31 ].
وفي القرآن المدني يخاطب الجماعة المؤمنة بقوله: (( يا أيُّها الذين آمنوا لا تُحرِّموا طيِّباتِ ما أحلّ الله لكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يُحبُّ المعتدين وكلوا ممَّا رزقكم الله حلالاً طيِّباً واتّقوا الله الذي أنتم به مؤمنون )) [المائدة:87،88 ].
وهاتان الآيتان الكريمتان تبينان للجماعة المؤمنة حقيقة منهج الإسلام في التمتع بالطيبات، ومقاومة الغلو الذي وجد في بعض الأديان، فقد روي في سبب النزول أن رهطاً من الصحابة قالوا: نقطع مذاكيرنا، ونترك شهوات الدنيا، ونسيح في الأرض كالرهبان! وروى أن رجالاً أرادوا أن يتبتلوا أو يخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح (ملابس الرهبان ) فنزلت..
وجاء عن ابن عبّاس: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا رسول الله إنّي إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت للنساء، وإني حرمت عليّ اللحم. فنزلت: ((يا أيُّها الذين آمنوا لا تُحرِّموا )) [ذكر هذه الروايات ابن كثير في تفسيره ].
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر، فكأنهم تقالُّوها (أي عدّوها قليلة ) فقال بعضهم: لا آكل اللحم.. وقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا أنام على فراش، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: "ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سُنتي فليس مِني ".
وسنته ـ عليه الصلاة والسلام ـ تعني منهجه في فهم الدين وتطبيقه، وكيف يعامل ربه عز وجل، ويعامل نفسه وأهله والناس من حوله - معطياً كل ذي حقٍ حقَّه، في توازن واعتدال.
العيوب والآفات الملازمة للغلو في الدين
وما كان هذا التحذير من التطرف والغلو إلاّ لأن فيه عيوباً وآفات أساسية تصاحبه وتلازمه. منها:
العيب الأول:
أنه منفِّر لا تحتمله طبيعة البشر العادية، ولا تصبر عليه، ولو صبر عليه قليل منهم لم يصبر عليه جمهورهم، والشرائع إنما تخاطب الناس كافة، لا فئة ذات مستوى خاص، ولهذا غضب النبي صلى الله عليه وسلم على صاحبه الجليل "معاذ " حين صلى بالناس فأطال حتى شكاه أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له: أفتان أنت يا معاذ؟! وكررها ثلاثاً [رواه البخاري ].
وفي واقعة مماثلة قال للإمام في غضب شديد لم يغضب مثله: "إن منكم منفرين... من أَمَّ بالناس فليتجوز، فإن خلفه الكبير والضعيف وذا الحاجة " [رواه البخاري ].
ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً وأبا موسى إلى اليمن أوصاهما بقوله: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا ... " [متفق عليه ].
وقال عمر رضي الله عنه: لا تبغِّضوا لله إلى عباده، فيكون أحدكم إماماً فيطول على القوم الصلاة حتى يبغِّض إليهم ما هم فيه .
والعيب الثاني:
أنه قصير العمر، والاستمرار عليه في العادة غير متيسر، فالإنسان ملول، وطاقته محدودة، فإن صبر يوماً على التشدد والتعسير، فسرعان ما تكل دابته أو تحرن عليه مطيته في السير. . وأعني بهما جهده البدني والنفسي ، فسيأم ويدع العمل حتى القليل منه. أو يأخذ طريقاً آخر، على عكس الطريق الذي كان عليه.. أي ينتقل من الإفراط إلى التفريط، ومن التشدد إلى التسيب، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله.
وكثيراً ما رأيت أناساً عرفوا بالتشدد والتطرف حيناً، ثم غبت عنهم أو غابوا عني زمناً فسألت عنهم بعد، فإما ساروا في خط آخر، وانقلبوا على أعقابهم، والعياذ بالله. . وإما قد فتروا وانقطعوا كالمنبت الذي جاء ذكره في الحديث "فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " [رواه البزار عن جابر بإسناد ضعيف ] يريد بالمنبت الذي انقطع عنه رفقته بعد أن أجهد دابته.
ومن هنا كان التوجيه النبوي بقوله صلى الله عليه وسلم : "اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا.. وإنّ أحبّ العمل إلى الله أدومه وإن قل " [رواه الشيخان وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها ].
وعن ابن عباس قال: كانت مولاة للنبي صلى الله عليه وسلم تصوم النهار وتقوم الليل فقيل له: إنها تصوم النهار وتقوم الليل! فقال صلى الله عليه وسلم: "إن لكل عمل شِرَّة (حدة ونشاطاً ) ولكل شرة فترة (استرخاء وفتوراً ) فمن كانت فترته إلى سنتي فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد ضل " [رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ].
وروى أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجال ينصبون في العبادة من أصحابه نصباً شديداً، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم : تلك ضراوة الإسلام وشرته، ولكل ضراوة شرّة، ولكل شرّة فترة.. فمن كانت فترته إلى الكتاب والسنة فلآمّ ما هو.. ومن كانت فترته إلى معاصي الله فذلك الهالك" (قال شاكر: إسناده صحيح )، ومعنى "لأمّ ما هو " أي يرجع إلى أصل ثابت عظيم أشار إليه بكلمة "آم " وتنكيرها دلالة التعظيم، وعلى الفتح "أم " من القصد.. أي قصد الطريق المستقيم.
(وفي رواية الطبراني لهذا الحديث:... فمن كانت فترته إلى اقتصاد، فنعم ما هو... ومن كانت فترته إلى المعاصي فأولئك هم الهالكون ).
وما أجمل الوصية النبوية العامة لكل المكلفين: الوصية بالقصد والاعتدال، وأن لا يحاولوا أن يغالبوا الدين، فيغلبهم، وأن يقاوموه بشدة، فيقهرهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلاّ غلبه، فسددوا وقاربوا وأبشروا... " [رواه البخاري والنسائي عن أبي هريرة ].
وقال العلامة المناوي في شرحه: يعني لا يتعمق أحد في العبادة ويترك الرفق كالرهبان، إلاّ عجز، فيغلب.. "فسدِّدوا " أي: الزموا السداد، وهو الصواب بلا إفراط ولا تفريط.. "وقاربوا " أي: إن لم تستطيعوا الأخذ بالأكمل فاعملوا بما يقرب منه "وأبشروا " أي: بالثواب على العمل الدائم وإن قل. أهـ .
والعيب الثالث:
أنه لا يخلو من جور على حقوق أخرى يجب أن تُرعى، وواجبات يجب أن تؤدى.. وما أصدق ما قاله أحد الحكماء: ما رأيت إسرافاً إلاّ وبجانبه حق مضيع... وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو حين بلغه انهماكه في العبادة انهماكا أنساه حق أهله عليه: ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟
قال عبد الله: فقلت بلى يا رسول الله.. فقال صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، صم وأفطر، وقم ونم. فإن لجسدك عليك حقاً.. وإن لعينيك عليك حقاً.. وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك (زوَّارك ) عليك حقاً.. [رواه البخاري في كتاب الصوم ].
يعني: فأعط كل ذي حق حقه، ولا تغلّ في ناحية على حساب أخرى.
وكذلك قال الصحابي الفقيه سلمان الفارسي لأخيه العابد الزاهد أبي الدرداء، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهما، فزادت بينهما الألفة، وسقطت الكلفة، فزار سلمان أبا الدرداء، فوجد أم الدرداء - زوجته - متبذلة (يعني: لابسة ثياب البذلة والمهنة لا ثياب الزينة والتجمل كما تفعل المرأة المتزوجة ) فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا! فجاء أبو الدرداء فرحب بسلمان، وقرب إليه طعاماً فقال: كل، فإني صائم! فقال سلمان: ما أنا بآكل حتى تأكل. وفي رواية البزار: أقسمت عليك لتفطرن... قال: فأكل... فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم... فقال سلمان: نم.. فنام. ثم ذهب ليقوم، فقال سلمان له: نم، فلما كان آخر الليل قال سلمان: قم الآن... فصلَّيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه... فأتى أبو الدرداء النبي صلى الله عليه وسلم ، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق سلمان. [رواه البخاري والترمذي ] وفي رواية ابن سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لقد أشبع سلمان علماً... ".
ولكن ما معنى التطرف الديني؟ وما المقصود به الآن؟ وما معالمه؟ ومتى يعتبر المرء متطرفاً دينياً؟!
تحديد مفهوم التطرف الديني. وعلى أي أساس يقوم؟
إن بيان هذا التطرف وتحديد المراد به بعلم وبصيرة، هو الخطوة الأولى في طريق العلاج، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة.
ولا قيمة لأي بيان أو حكم هنا ما لم يكن مستنداً إلى المفاهيم الإسلامية الأصيلة، وإلى النصوص والقواعد الشرعية الثابتة، لا إلى الآراء المجردة، وقول فلان أو علان من النّاس، فلا حجة في قول أحد دون الله ورسوله، قال تعالى: ((فإن تنازعتُم في شيءٍ فرُدُّوه إلى اللهِ والرسولِ إنْ كُنتم تُؤمِنون باللهِ واليومِ الآخِرِ )) [النساء:59 ]، وقد اتفقت الأمة، سلفها وخلفها، على أن الرد إلى الله تعالى يعني: الرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم يعني: الرد إلى سنته عليه الصلاة والسلام.
وبدون هذا التوثيق الشرعي لن يُعير الشباب المتهم بالتطرف التفاتاً إلى فتوى هذا أو مقال ذاك، وسيضربون عرض الحائط بهذا الاتهام الذي ينكرونه، ويتهمون موجهيه بالتزييف، وتسمية الأشياء بغير أسمائها. وقديماً قيل: إن الإمام محمد بن إدريس الشافعي، وهو من هو في أهل السنة، نسبت إليه تهمة "الرفض " فضاق بهذا الاتهام الرخيص، وقال متحدياً:
إن كان رفضاً حب آل محمد فليشهد الثقلان أنِّي رافِضي
وحديثاً قال أحد الدعاة: اللهم إن كان المتمسك بالكتاب والسنة رجعياً، فأحيني اللهم رجعياً، وأمتني رجعياً، واحشرني في زمرة الرجعيين!
والواقع أن تحديد مفاهيم مثل هذه الكلمات الشائعة "الرجعية " "الجمود " "التطرف " "التعصب " ونحوها، أمر في غاية الأهمية، حتى لا تترك مادة هلامية رجراجة، يستخدمها كل فريق كما يحلو له، وتتناولها القوى الفكرية والاجتماعية المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فيفسرها كل بما شاء وكيف شاء. .
وهنا نجد أننا لو تركنا تحديد مفهوم "التطرف الديني " لآراء الناس وأهوائهم لتفرقت بنا السبل، تبعاً للأهواء التي لا تتناهى ((ولوْ اتّبع الحقُّ أهواءهُم لفَسدتِ السماوات والأرض ومَنْ فيهن َّ)) [المؤمنون:71 ].
ملاحظتان مهمتان
وأود أن أنبه هنا إلى ملاحظتين جديرتين بالاهتمام في موضوعنا:
الملاحظة الأولى:
أن مقدار تدين المرء، وتدين المحيط الذي يعيش فيه، من حيث القوة والضعف، له أثره في الحكم على الآخرين، بالتطرف أو التوسط أو التسيب.
فمن المشاهد أن من كانت جرعته من التدين قوية، وكان الوسط الذي نشأ فيه شديد الالتزام بالدين، يكون مرهف الحس لأي مخالفة أو تقصير يراه، حتى إنه ليعجب أن يوجد مسلم لا حظّ له من قيام الليل، أو صيام النهار، وفي هذا ورد القول المأثور:
"حسنات الأبرار، سيئات المقربين ".
ويحضرني هنا ما قاله أنس بن مالك لمعاصريه من التابعين: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، إن كنا لنعدّها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات!
وكانت عائشة رضي الله عنها تنشد بيت لبيد بن ربيعة:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب!
وتقول: رحم الله لبيداً، كيف لو عاش إلى زماننا هذا؟ وكان ابن أختها عروة بن الزبير، وقد عاش بعدها زمناً، ينشد البيت، ويقول: رحم الله لبيداً وعائشة، كيف لو عاشا إلى زماننا هذا؟!
وفي مقابل هذا نجد الشخص الذي قل زاده من التدين علماً وعملاً، أوعاش في محيط تجرأ على محارم الله وتنكر لشرائعه، يعتبر التمسك بالحد الأدنى من الدين ضرباً من التعصب أو التشدد.
وكلما زادت مسافة البعد بينه وبين الدين، زاد استغرابه بل إنكاره، بل اتهامه لكل من يستمسك بعروة الدين، ويلجم نفسه بلجام التقوى، ويسأل في كل شيء يعرض له أو يعرض عليه: حلال هو أم حرام؟
وكثير من أولئك الذين يعيشون في أوطاننا بأسماء إسلامية، وعقول غربية، يعتبرون مجرد الالتزام بأوامر الله ونواهيه تطرفاً دينياً!
وكثير ممن غزته الأفكار والتقاليد الأجنبية يعتبر الذين يتمسكون بآداب الإسلام في المأكل والمشرب والملبس والزينة ونحوها، غاية في التطرف والتعصب!
لقد رأينا من يعد إطلاق اللحية من الفتى، أو التزام الحجاب من الفتاة، تطرفاً في الدين!
ورأينا من يعتبر الدعوة إلى تحكيم شريعة الله، وإقامة دولة الإسلام في أرض الإسلام، تطرفاً في الدين!
ورأينا من يرى الغيرة على الدين وحرماته، والأمر بالمعروف إذا ضُيِّع ،والنهي عن المنكر إذا وقع، تطرفاً في الدين، وتدخلاً في الحرية الشخصية للآخرين!
ورأينا من يرى أن اعتبار الآخرين من غير المؤمنين بدينه كفاراً، تعصب وتطرف، مع أن أساس الإيمان الديني أن يعتقد المؤمن أنه على حق، وأن مخالفه على باطل، ولا مجاملة في هذه الحقيقة.
والملاحظة الثانية:
أنه ليس من الإنصاف أن نتهم إنساناً بالتطرف في دينه لمجرد أنه اختار رأياً من الآراء الفقهية المتشددة، ما دام يعتقد أنه الأصوب والأرجح، ويرى أنه ملزم به شرعاً، ومحاسب عليه ديناً، وإن كان غيره يرى رأيه مرجوحاً أو ضعيفاً، لأنه ليس مسؤولاً إلاّ عما يراه ويعتقده هو، وإن شدد بذلك على نفسه، بل حسبه أن يرى أن ذلك هو الأفضل والأورع، وإن لم يكن فرضاً ولا واجباً، إذ كانت همته لا تقف عند حد الفرائض، وإنما يتقرب إلى الله تعالى بالنوافل حتى يحبه.
ومن حقائق الحياة، أن الناس يتفاوتون في هذه القضية، فمنهم المتساهل الميسر، ومنهم المتشدد المعسر، وقد كان في الصحابة المترخص كابن عبّاس، والمتشدد كابن عمر رضي الله عنهم.
ويكفي المسلم في هذا المقام أن يستند رأيه الذي تبناه إلى مذهب من المذاهب المعتبرة عند المسلمين، أو يعتمد على اجتهاد صحيح قائم على استدلال شرعي سليم؛ فإذا كان هناك من أئمة المذاهب المتبوعة من يقول بوجوب إعفاء اللحية وتركها وحرمة حلقها، فهل يوصف بالتطرف من اقتنع بهذا المذهب وأخذ به، وطبقه على نفسه لأنه خالف رأيي ورأيك ورأي زيد وعمر من العلماء، ولا سيما المعاصرين؟ وهل من حقنا أن نصادر حق امرئ في ترجيح رأي على آخر، وخاصة أنه يتصل بحياته وسلوكه هو، لا بحياة غيره.
إن جماً غفيراً من علماء السلف والخلف، رأوا أن على المرأة المسلمة أن تستر جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها، فقد اعتبروهما مما استثني في قوله تعالى: ((ولا يُبْدين زينتهُنّ إلاّ ما ظهر مِنْها )) [النور: 31 ]، وأكدوا ذلك بأحاديث ووقائع وآثار.. ورجح ذلك كثيرون من علماء عصرنا، وأنا منهم.
ولكن عدداً آخر من العلماء المرموقين، ذهبوا إلى أن الوجه والكفين عورة يجب سترها، واستدلوا على ذلك بنصوص من القرآن والحديث والآثار، وأخذ بقولهم كثيرون من علماء هذا العصر، وخصوصاً في باكستان والهند والسعودية وأقطار الخليج، وأرسلوا نداءاتهم إلى كل فتاة تؤمن بالله وباليوم الآخر، أن تلبس النقاب، ليستر وجهها، والقفاز ليستر يديها.
فهل تدمغ بالتطرف فتاة أو سيدة آمنت بهذا المذهب، واعتبرته جزءاً من دينها؟ أو يدمغ به رجل دعا إلى ذلك ابنته أو زوجته فاستجابت؟ وهل يحق لنا أن نجبر هذا أو ذاك أو تلك على التنازل عما يعتقده شرع الله، ونلزمه أن يبيع الجنة ويشتري النار إرضاءاً لخاطرنا، وفراراً من تهمة التطرف؟
ومثل ذلك يقال فيمن يتبنى الآراء المتشددة في الغناء والموسيقي والرسم والتصوير وغيرها، مما يخالف اجتهادي شخصياً في هذه الأمور، واجتهاد عدد من علماء العصر البارزين، ولكنه يتفق مع العديد من علماء المسلمين، متقدمين ومتأخرين ومعاصرين.
والواقع أن كثيراً مما ينكر على من نسميهم "المتطرفين " مما قد يعتبر من التشدد والتنطع، له أصل شرعي في فقهنا وتراثنا، تبناه بعض العلماء المعاصرين، ودافعوا عنه ودعوا إليه، فاستجاب لهم من الشباب المخلص من استجاب، رجاء في رحمة الله تعالى وخوفاً من عذابه، وذلك كلبس الثوب (الجلباب ) بدل القميص والبنطلون، وتقصيره إلى ما فوق الكعبين، والامتناع عن مصافحة النساء، وغيرها.
ومن هنا لا نستطيع أن ننكر على مسلم، أو نتهمه بالتطرف، لمجرد أنه شدد على نفسه، وأخذ من الآراء الفقهية بما يراه أرضى لربه، وأسلم لدينه، وأحوط لآخرته.
وليس من حقنا أن نجبره على التنازل عن رأيه ونطالبه بسلوك يخالف معتقده. كل ما نملكه أن ندعوه بالحكمة، ونحاوره بالحسنى، ونقنعه بالدليل، عسى أن يدخل فيما نراه أهدى سبيلاً، وأقوم قيلاً.
مظاهر التطــــرف
فما التطرف إذن، وما دلائله ومظاهره؟
التعصب للرأي وعدم الاعتراف بالرأي الآخر:
1- إن أولى دلائل التطرف: هي التعصب للرأي تعصباً لا يعترف معه للآخرين بوجود، وجمود الشخص على فهمه جموداً لا يسمح له برؤية واضحة لمصالح الخلق، ولا مقاصد الشرع، ولا ظروف العصر، ولا يفتح نافذة للحوار مع الآخرين، وموازنة ما عنده بما عندهم، والأخذ بما يراه بعد ذلك أنصع برهاناً، وأرجح ميزاناً.
ونحن هنا ننكر على صاحب هذا الاتجاه ما أنكرناه على خصومه ومتهميه، وهو محاولة الحجر على آراء المخالفين وإلغائها.
أجل، إنما ننكر عليه حقاً، إذا أنكر الآراء المخالفة ووجهات النظر الأخرى، وزعم أنه وحده على الحق، ومن عداه على الضلال، واتهم من خالفه في الرأي بالجهل واتباع الهوى، ومن خالفه في السلوك بالفسوق والعصيان، كأنه جعل من نفسه نبياً معصوماً، ومن قوله وحياً يوحى! مع أن سلف الأمة وخلفها قد أجمعوا على أن كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك، إلاّ النبي صلى الله عليه وسلم .
والعجيب أن من هؤلاء من يجيز لنفسه أن يجتهد في أعوص المسائل، وأغمض القضايا، ويفتي فيها بما يلوح له من رأي، وافق فيه أو خالف، ولكنه لا يجيز لعلماء العصر المتخصصين، منفردين أو مجتمعين، أن يجتهدوا في رأي يخالف ما ذهب إليه.
ومنهم من يخرج بآراء وتفسيرات لدين الله، هي غاية في العجب، لا يبالي أن يشذ فيها عن كافة السابقين واللاحقين، والمحدثين والمعاصرين، لأن رأسه برأس أبي بكر، وعمر، وعليّ، وابن عبَّاس رضي الله عنهم ، فهو رجل وهم رجال! وليته يعدي هذه الرجولة والفحولة إلى غيره من معاصريه، من لا يرى رأيه، ولا يتبع نهجه من أهل العلم، بيد أنه لا يتعدى نفسه، وكل الصيد في جوف الفرا!
فهذا التعصب المقيت الذي يثبت المرء فيه نفسه، وينفي كل من عداه، هو الذي نراه من دلائل التطرف حقاً، فالمتطرف كأنما يقول لك: من حقي أن أتكلم.. ومن واجبك أن تسمع.. ومن حقي أن أقود.. ومن واجبك أن تتبع.. رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ لا يحتمل الصواب.. وبهذا لا يمكن أن يلتقي بغيره أبداً، لأن اللقاء يمكن ويسهل في منتصف الطريق ووسطه، وهو لا يعرف الوسط ولا يعترف به، فهو مع الناس كالمشرق والمغرب، لا تقترب من أحدهما إلا بمقدار ما تبتعد من الآخر.
ويزداد الأمر خطورة حين يراد فرض الرأي على الآخرين بالعصا الغليظة، والعصا الغليظة هنا قد لا تكون من حديد ولا خشب، فهناك الاتهام بالابتداع أو بالاستهتار بالدين، أو بالكفر والمروق - والعياذ بالله - فهذا الإرهاب الفكري أشد تخويفاً وتهديداً من الإرهاب الحسي.
إلزام جمهور النَّاس ، بما لم يلزمهم الله به
2- ومن مظاهر التطرف الديني: التزام التشديد دائماً، مع قيام موجبات التيسير، وإلزام الآخرين به، حيث لم يلزمهم الله به، إذ لا مانع أن يأخذ المرء لنفسه بالأشد في بعض المسائل، وبالأثقل في بعض الأحوال، تورعاً واحتياطاً، ولكن لا ينبغي أن يكون هذا ديدنه دائماً وفي كل حال، بحيث يحتاج إلى التيسير فيأباه، وتأتيه الرخصة فيرفضها، مع قوله صلى الله عليه وسلم : "يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا " وقوله: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته " وقوله تعالى: ((يُريد الله بِكُم اليُسْر ولا يُريدُ بِكُم العُسْر )) [البقرة: 158 ]، و "ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما، ما لم يكن إثما ً".