ودبشير ارض الشمال
مرحبا بالزاير الكريم انت لم تسجل بعد سارع
بالتسجيل
او الدخول
‏ ‏ نرجو ان تجدوا ما يسركم و نتعاون معا ليرتقي الي ما نصبو اليه

والله ولي التوفيق
ودبشير ارض الشمال
مرحبا بالزاير الكريم انت لم تسجل بعد سارع
بالتسجيل
او الدخول
‏ ‏ نرجو ان تجدوا ما يسركم و نتعاون معا ليرتقي الي ما نصبو اليه

والله ولي التوفيق
ودبشير ارض الشمال
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ودبشير ارض الشمال

اسلاامي / اجتماعي / ثقافي / رياضي/ برامج والعاب / اكواد دعم منتديات
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  صفحتنا على الفيس بكصفحتنا على الفيس بك  

 

 موسم الهجرة الي الشمال 4

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 795
تاريخ التسجيل : 30/03/2012
العمر : 68
الموقع : wadbashir.2morpg.Com

موسم الهجرة الي الشمال 4 Empty
مُساهمةموضوع: موسم الهجرة الي الشمال 4   موسم الهجرة الي الشمال 4 Emptyالأحد نوفمبر 01, 2015 9:42 pm


( كان أباً لأولادي ) .
إذا صدق ظني ، فإن الصوت لم يكن حزيناً ، بل كانت فيه مناغاة . وتركت الصمت يوسوس لها فلعلها تقول شيئاً . نعم ، ذلك هو : ( كان زوجاً كريماً وأباً كريماً . طول حياته لم يقصر معنا ) . فقلت لها وأنا أميل في الظلام تجاهها : ( هل كنت تعرفين من أين هو ؟ ) .
قالت : ( من الخرطوم ) .
قلت : ( وماذا يعمل في الخرطوم ؟ ) .
قالت : ( في التجارة ) .
قلت : ( ولماذا جاء إلى هنا ؟ ) .
قالت : ( الله أعلم ) .
وكدت أيأس . ثم هبت نسمة نشطة في اتجاهي حاملة ..
شحنة من العطر ، فوق ما كنت أطمع فيه . واستنشقت العطر وأحسست بيأسي يزداد حدة . وفجأة حدثت فجوة كبيرة في الظلام ، نفذ منها صوت حزين هذه المرة ، حزناً أعمق من غور النهر . قالت : ( أظنه كان يخفي شيئاً ) . لاحقتها بالسؤال : ( لماذا ؟ ) . قالت : ( كان يقضي وقتاً طويلاً بالليل في تلك الغرفة ) قالت : ( لا أدري . إنني لم أدخلها قط . المفتاح عندك . لماذا لا تتحقق بنفسك ؟ ) . نعم ، هبنا قمنا أنا وهي الآن ، في هذه اللحظة ، وأوقدنا المصباح ، ودخلنا ، هل نجده معلقاً من رقبته في السقف ، أم نجده جالساً القرفصاء على الأرض ؟ .
سألتها مرة أخرى : ( لماذا تظنين أنه كان يخفي شيئاً ؟) . صوتها الآن ليس حزيناً وليست فيه مناغاة ، ولكنه مشرشر الأطراف كورقة الذرة : ( أحياناً بالليل في النوم كان يقول كلاماً .. بالرطانة ) ولاحقتها بالسؤال : ( أي رطانة ؟ ) . فقالت : ( لا أدري . مثل الكلام الأفرنجي ) وظلت مائلاً وجهتها في الظلام ، مترقباً ، منتظراً . ( كان يردد في نومه كلمات .. مثل جينا ، جيني .. لا أدري ) .
في هذا المكان نفسه ، في وقت مثل هذا ، في ظلام مثل هذا ، كان صوته يطفو كأحوات ميتة طافية على سطح البحر . ( ظللت أطاردها ثلاثة أعوام . كل يوم يشتد توتر وتر القوس . قوافلي ظمأى والسراب يتوهج قدامي في صحراء الشوق . في تلك الليلة حين همست جين في أذني : (تعال معي . تعال معي) ، كانت حياتي قد اكتملت ولم يكن يوجد سبب للبقاء .. ) وتناهت إلى أذني صرخة طفل من مكان ما في الحي ، وقالت حسنه : ( كأنه كان يحس بدنو أجله . قبل اليوم ، يوم .. قبل موته بأسبوع رتب كل شؤونه . كانت له أطراف جمعها ، وديون دفعها . قبل موته بيوم دعاني وحدثني بما عنده . أوصاني كثيراً على الولدين . أعطاني الرسالة المختومة بالشمع . قال لي . أعطها له إذا حدث شيء . وقال لي إذا حدث شيء فأنت تكون وصياً على الأولاد . قال لي : استشيريه في كل ما تفعلين . بكيت وقلت له : إن شاء الله ما في عوج . فقال : فقط من باب الاحتياط والدنيا غير معروفة . في ذلك اليوم توسلت إليه ألا ينزل إلى الحقل والدنيا فيضان وغرق . كنت خائفة . لكنه قال لا داعي للخوف حين تأخر عن ميعاده . وانتظرنا ، ثم كان ما كان ) .
وأحسست بها تبكي في صمت ، ثم ارتفع بكاؤها ، وتحول إلى شهيق حاد ، ارتعش له الظلام القائم بيني وبينها . ضاع ..
العطر والصمت ، ولم يعد في الكون إلا نحيب امرأة ثكلت زوجاً لا تعرفه ، رجلاً أفرد أشرعته وضرب في عرض البحر وراء سراب أجنبي . وود الريس الشيخ في داره يحلم بليالي الغنج تحت فركة القرمصيص . وأنا ماذا أفعل الآن وسط هذه الفوضى ؟ هل أقوم إليها وأضمها إلى صدري وأجفف دموعها بمنديلي وأعيد الطمأنينة إلى قلبها بكلماتي ؟ وقمت نصف قومة مستنداً إلى ذراعي ، ولكنني أحسست بالخطر ، وتذكرت شيئاً ، فلبثت واقفاً هكذا زمناً في حالة بين الإقدام والإحجام . وبغتة هبط علي عناء ثقيل تهالكت تحت وطأته على المقعد . الظلام كثيف وعميق وأساسي وليست حالة ينعدم فيها الضوء الظلام الآن ثابت كأن الضوء لم يوجد أصلاً ، ونجوم السماء مجرد فتوق في ثوب قديم مهلهل . العطر أضغاث أحلام ، صوت لا يسمع مثل أصوات أرجل النمل في تل الرمل . ونبع من جوف الظلام صوت لم يكن صوتها صوت ليس غاضباً ولا حزيناً ولا خائفاً ، صوت مجرد ، يقول : ( كان المحامون يتصارعون على جثتي . لم أكن أنا المهم بل كانت القضية هي المهمة ) بروفسور ماكسول فستر كين من المؤسسين لحركة التسلح الخلقي في أكسفورد ، وماسوني ، وعضو في اللجنة العليا لمؤتمر الجمعيات التبشيرية البروتستنتية في أفريقيا . لم يكن يخفي كراهيته لي . أيام تتلمذي عليه في أكسفورد كان يقول لي في تبرم واضح : ( أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في أفريقيا عديمة الجدوى ، ..
فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة ) . ومع ذلك فها هو ذا يستعمل كل مهارته ليخلصني من حبل المشنقة . وسير آرثر هغنز ، تزوج وطلق مرتين ، مغامراته الغرامية معروفة ، مشهور بصلاته مع اليسار والأوساط البوهيمية . قضيت عيد الميلاد سنة 1925 في بيته في سافرون ولدن . كان يقول لي : ( أنت وغد ولكنني لا أكره الأوغاد ، فأنا أيضاً وغد ) . لكنه في هذه المحكمة سيستعمل كل مهارته ليضع حبل المشنقة حول عنقي . والمحلفون أيضاً ، أشتات من الناس ، منهم العامل والطبيب والمزارع والمعلم والتاجر والحانوتي . لا تجمع صلة بيني وبينهم ، لو أنني طلبت استئجار غرفة في بيت أحدهم فأغلب الظن أنه سيرفض ، وإذا جاءت ابنة أحدهم تقول له إنني سأتزوج هذا الرجل الأفريقي ، فيحس حتماً بأن العالم ينهار تحت رجليه . ولكن كل واحد منهم في هذه المحكمة سيسمو على نفسه لأول مرة في حياته . وأنا أحس تجاههم بنوع من التفوق ، فالاحتفال مقام أصلاً بسببي ، وأنا فوق كل شيء مستعمر ، إنني الدخيل الذي يجب أن يبت في أمره . حين جيء لكتشنر بمحمود ود أحمد وهو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعة أتبرا ، قال له : ( لماذا جئت بندي لتخرب وتنهب ؟) الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض ، وصاحب الأرض طأطأ رأسه ولم يقل شيئاً . فليكن أيضاً ذلك شأني معهم . إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة ، ..
وقعقعة سنابك خيل اللنبى وهي تطأ أرض القدس . البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز ، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود . وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول ( نعم ) بلغتهم . إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان ، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام . نعم يا سادتي ، إنني جئتكم غازياً في عقر داركم . قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ . أنا لست عطيلاً . عطيل كان أكذوبة ) .
بينما كنت أفكر في قول مصطفى سعيد وهو يجلس في هذا المكان عينه ، في ليلة مثل هذه ، كنت أسمع نشيجها بالبكاء كأنه يصلني من بعد ، يختلط في خيالي بأصوات مبعثرة لا بد أنني سمعتها في أوقات متباعدة ، ولكنها تداخلت في ذهني كأجراس كنيسة صراخ طفل في مكان ما في الحي ، وصياح ديك ، ونهيق حمار ، وأصوات عرس تأتي من الضفة الأخرى للنهر . لكنني الآن أسمع صوتاً واحداً فقط ، صوت بكائها الممض . ولم أفعل شيئاً . جلست حيث أنا بلا حراك وتركتها تبكي وحدها لليل حتى سكتت . وكان لا بد أن أقول شيئاً ، فقلت : ( التعلق بالماضي لا ينفع أحداً . عندك الولدان ، وأنت ما زلت شابة في مقتبل العمر . فكري في المستقبل . ومن يدري ، لعلك تقبلين واحداً من الخطاب العديدين الذين يطلبونك ) . ..
أجابت فوراً ، يحرم والأمر أدهشني : ( بعد مصطفى سعيد لا أدخل على رجل ) . ولم أكن أنوي أن أقول لها ذلك ، ولكنني قلت : ( ود الريس يريد زواجك ، وأبوك وأهلك لا يمانعون . كلفني أن أتوسط له عندك ) .
وصمتت فترة طويلة حتى ظننت أنها لن تقول شيئاً ، وفكرت في أن أقوم وأذهب . وأخيراً أحسست بصوتها في الظلام كأنه نصل : ( إذا أجبروني على الزواج ، فإنني سأقتله وأقتل نفسي ) .
وفكرت في عدة أشياء أقولها ، لكنني ما لبثت أن سمعت المؤذين ينادي : ( الله أكبر . الله أكبر ) لصلاة العشاء ، فوقفت هي أيضاً ، وخرجت دون أن أقول شيئاً . وأن أشرب قهوة الصباح جاءني ود الريس . كنت أنوي الذهاب إلى داره ولكنه لم يمهلني . قال إنه جاء ليذكرني بدعوة البارحة ، ولكنني كنت أعلم أنه لم يستطع الصبر فجاء ليعرف مني نتيجة وساطتي . قلت له حالماً جلس : ( لا فائدة . إنها لا تريد الزواج إطلاقاً . لو كنت منك لتركت هذا الموضوع البتة ) .
لم أكن أحسب أن الخبر سيقع عليه كما وقع فعلاً . لكن ود الريس الذي يبدل النساء كما يبدل الحمير ، يجلس أمامي
لآن . وجهه مؤبد وجفناه يرتعشان ، وقد عض شفته السفلى حتى كان يقطعها . أخذ يتململ في مقعده وينقر الأرض في عصبية بالغة بعصاه . خلع حذاءه من رجله اليمنى ولبسه عدة مرات ، وكان يتأهب للقيام ثم يجلس ، ويفتح فمه كأنه يريد أن يتكلم ثم يسكت . يا للعجب هل معقول أن ود الريس عاشق ؟ وقلت له : ( لن تعدم امرأة غيرها تتزوجها ) .
قال وعيناه الذكيتان لم تعودا ذكيتين ، أصبحتا كرتين من الزجاج قد استقرتا على حالة واحدة جامدة : ( لن أتزوج غيرها . ستقبلني وأنفها صاغرة . هل تظن أنها ملكة أو أميرة ؟ الأرمل في هذا البلد أكثر من جوع البطن . تحمد الله أنها وجدت زوجاً مثلي ) .
قلت له : ( إن كانت امرأة كسائر النساء فلماذا الإصرار ؟ أنت تعلم أنها رفضت رجالاً غيرك ، بعضهم أصغر منك سناً . إذا أرادت أن تتفرغ لتربية ولديها فلماذا لا تتركونها وشأنها ؟ ) . بغتة تدفق من ود الريس غضب جنوني لم أكن أظن أنه من طبيعته . ثار ثورة عارمة ، وقال شيئاً أدهشني حقيقة : ( أسأل نفسك لماذا ترفض بنت محمود الزواج . أنت السبب . لا شك أن بينك وبينها شيئاً . ما دخلك أنت ؟ أنت لست أباها ولا أخاها ولا ولي أمرها . إنها ستتزوجني رغم أنفك وأنفها . أبوها قبل وأخواتها قبلوا . الكلام الفارغ الذي تتعلمونه في ..
المدارس لا يسير عندنا . هذا البلد فيه الرجال قوامون على النساء ) . ولا أعلم ماذا كان يحدث لولا أن أبي دخل في تلك اللحظة ، وقمت فوراً وخرجت .
ورحت إلى محجوب في حقله . كان محجوب في مثل سني ، قضينا طفولتنا معاً ، وكنا نجلس على درجين متلاصقين في المدرسة الأولية . وكان أذكى مني . ولما انتهينا من مرحلة التعليم الأولي . قال محجوب : ( هذا القدر من التعليم يكفي ، القراءة والكتابة والحساب . نحن ناس مزارعون مثل آبائنا وأجدادنا . كل ما يلزم المزارع من التعليم ، ما يمكنه من كتابة الخطابات وقراءة الجرائد ومعرفة فروض الصلاة . وإذا كانت لنا مشكلة نعرف نتفاهم مع الحكام ) .
مضيت أنا في ذلك السبيل ، وتحول محجوب إلى طاقة فعالة في البلد ، فهو اليوم رئيس للجنة المشروع الزراعي ، والجمعية التعاونية ، وهو عضو في لجنة الشفخانة التي كادت تتم ، وهو على رأس كل وفد يقوم إلى مركز المديرية لرفع الظلامات . وحين جاء الاستقلال أصبح محجوب من زعماء الحزب الوطني الاشتراكي الديمقراطي في البلد . كنا أحياناً نتذاكر أيام الطفولة في القرية فيقول لي : ( لكن أنظر أين أنت الآن وأين أنا . أنت صرت موظفاً كبيراً في الحكومة وأنا مزارع في هذه البلدة المقطوعة ) . وأقول له بإعجاب حقيقي : ( أنت الذي نجحت
لا أنا ، لأنك تؤثر على الحياة الحقيقة في القطر . أما نحن فموظفون لا نقدم ولا نؤخر . الناس أمثالك هم الورثاء الشرعيون للسلطة . أنتم عصب الحياة . أنت ملح الأرض ) . ويضحك محجوب ويقول : ( إذا كنا نحن ملح الأرض فهي أرض ماسخة ) .
ضحك أيضاً بعد أن سمع قصتي مع ود الريس وقال : ( ود الريس رجل مخرف لا يعني ما يقول ) . قلت له : ( أنت تعلم أن علاقتي بها علاقة يمليها الواجب لا أكثر ولا أقل ؟ ) . فقال محجوب : ( لا تلتفت لتخريف ود الريس . سمعتك في البلد لا تشوبها شائبة . أهل البلد كلهم يلهجون بحمدك لأنك تقوم بالواجب نحو أولاد مصطفى سعيد ، رحمه الله ، خير قيام لقد كان على أي حال رجلاً غريباً لا تربطك به رابطة ) . وسكت قليلاً ثم قال : ( إنما إذا كان أبو المرأة وإخوانها راضين فلا حيلة لأحد ) .
قلت له : ( ولكن إذا كانت لا تريد الزواج ..) وقاطعني قائلاً : ( أنت لا تعرف نظام الحياة هنا . المرأة للرجل ، والرجل رجل حتى لو بلغ أرذل العمر ) . قلت له : ( ولكن إذا كانت لا تريد الزواج .. ) وقاطعني قائلاً : ( في هذا العصر ) . ..
وقال محجوب : ( الدنيا لم تتغير بالقدر الذي تظنه . تغيرت أشياء . طلمبات الماء بدل السواقي ، محاريث من حديد بدل محاريث الخشب . أصبحنا نرسل بناتنا للمدارس . راديوهات . أوتومبيلات . تعلمنا شرب الويسكي والبيرة بدل العرقي والمريسة . لكن كل شيء كما كان ) . وضحك محجوب وهو يقول : ( الدنيا تتغير حقيقة حين يصير أمثالي وزراء في الحكومة ) . وأضاف وهو ما يزال يضحك : ( وهذا طبعاً من رابع المستحيلات ) .
قلت لمحجوب ، وقد سرى عني : ( هل تظن أن ود الريس وقع في غرام حسنه بنت محمود ؟ ) . قال محجوب : ( لا يستبعد . ود الريس رجل صبابة . وهو منذ سنتين يلهج بذكرها . وقد طلبها من قبل وأبوها قبل ولكنها رفضت . وانتظروا لعلها تقبل مع مرور الزمن ) . قلت لمحجوب : ( لكن لماذا هذا الغرام الفجائي ؟ ود الريس يعرف حسنه بنت محمود منذ كانت طفلة . هل تذكرها وهي طفلة شرسة تتسلق الشجر وتصارع الأولاد ؟ كانت وهي فتاة تسبح معنا عارية في النهر . ماذا جد الآن ؟ ) .
وقال محجوب : ( ود الريس كهؤلاء الناس المغرمين باقتناء الحمير ، الواحد منهم لا تعجبه الحمارة إلا إذا رأى رجلاً آخر راكباً عليها . يراها حينئذ جميلة يسعى جاهداً لشرائها حتى ..
ولو دفع فيها أكثر مما تستحق ) . وصمت مدة يفكر ثم قال : ( ولكن الحقيقة أن بنت محمود قد تغيرت بعد زواجها من مصطفى سعيد . كل النسوان يتغيرن بعد الزواج لكنها هي خصوصاً تغيرت تغيراً لا يوصف . كأنها شخص آخر . حتى نحن أندادها الذين كنا نلعب معها في الحي ، ننظر إليها اليوم فنراها شيئاً جديداً ، هل تعرف ؟ كنساء المدن ) .
وسألت محجوب عن مصطفى سعيد فقال : ( رحمه الله . كان يحترمني وكنت أحترمه . لم تكن الصلة بيننا وثيقة أول الأمر . ولكن عملنا معاً في لجنة المشروع قرب بيننا . موته كان خسارة لا تعوض . هل تعلم ، أنه ساعدنا مساعدة قيمة في تنظيم المشروع . كان يتولى الحسابات . خبرته في التجارة أفادتنا كثيراً . وهو الذي أشار علينا باستغلال أرباح المشروع في إقامة طاحونة للدقيق . لقد وفرت علينا أتعاباً كثيرة ، وأصبح الناس اليوم يجيئونها من أطراف البلد . وهو الذي أشار علينا أيضاً بفتح دكان تعاوني . الأسعار الآن عندنا لا تزيد عن الأسعار في الخرطوم . زمان ، كما تعلم ، كانت البضائع تأتي مرة أو مرتين في الشهر بالباخرة . كان التجار يخزنونها حتى تنقطع كلية من السوق ، ثم يبيعونها بأضعاف مضاعفة . المشروع يملك اليوم عشرة لواري تجلب لنا البضائع كل يوم والآخر مباشرة من الخرطوم وأم درمان . ورجوته أكثر من مرة أن يتولى الرئاسة ولكنه كان يرفض ..
ويقول إنني أجدر منه . العمدة والتجار كانوا يكرهونه كراهية شديدة لأنه فتح عيون أهل البلد وأفسد عليهم أمرهم بعد موته قامت إشاعات بأنهم دبروا قتله . مجر كلام . لقد مات غرقاً . عشرات الرجال ماتوا غرقاً ذلك العام . كان عقلية واسعة . ذلك هو الرجل الذي كان يستحق أن يكون وزيراً في الحكومة لو كان يوجد عدل في الدنيا .
فقلت لمحجوب : ( السياسة أفسدتك . أصبحت لا تفكر إلا في السلطة . دعك من الوزارات والحكومة وحدثني عنه كإنسان . أي نوع من الناس كان هو ؟ ) .
وظهرت الدهشة على وجهه وقال : ( ماذا تقصد أي نوع من الناس ؟ إنه كان كما ذكرت لك ) . ولم أستطع أن أجد الكلمات المناسبة لأوضح لمحجوب قصدي . وقال هو : ( مهما يكن .. ايش السبب في اهتمامك بمصطفى سعيد ؟ لقد سألتني عنه كذا مرة من قبل ؟ ) . واستطرد محجوب قبل أن أرد على كلامه : ( تعرف ؟ لا افهم لماذا جعلك وصياً على ولديه . طبعاً أنت تستحق شرف الأمانة وقد قمت بها خير قيام . لكنك كنت أقلنا معرفة به . نحن معه هنا في البلد ، وأنت كنت تراه من العام إلى العام . كنت أتوقع أن يجعلني أو يجعل جدك وصياً . جدك كان صديقه الحميم . كان يحب الاستماع إلى حديثه . كان يقول ..
لي : تعرف يا محجوب ؟ حاج أحمد رجل فريد من نوعه . وكنت أقول له : حاج أحمد رجل مخرف . فيزعل جداً ويقول : ( لا ، لا تقل هذا . حاج أحمد جزء من التاريخ ) . قلت لمحجوب : ( أنا على أي حال وصي اسمياً . الوصي الحقيقي هو أنت . الولدان هنا معك . وأنا بعيد في الخرطوم ) . فقال محجوب : ( إنهما ولدان ذكيان مؤدبان . فيهما مخايل أبيهما . سيرهما في الدراسة أحسن ما يكون ) . فقلت له : ( ماذا يحدث لهما إذا تم موضوع الزواج المضحك الذي يريده ود الريس ؟ ) . فقال محجوب : ( هون عليك . حتماً ود الريس سينشغل بامرأة أخرى . وعلى أسوأ الفروض تتزوجه . لا أظنه يعيش أكثر من عام أو عامين . وبكون لها سهم في أرضه وزرعه الكثير ) . ثم ، مثل ضربة مفاجئة تنزل على أم الرأس ، نزل علي قول محجوب : ( لماذا لا تتزوجها أنت ؟ ) خفق قلبي بين جنبي خفقاناً كاد يفلت زمامه من يدي . ولم أجد الكلمات إلا بعد مدة . قلت لمحجوب وصوتي يرتجف : ( لا شك أنك تمزح ) . فقال : ( جد . لماذا لا تتزوجها ؟ أنا متأكد أنها ..
ستقبل . أنت وصي على الولدين ، وبالأحرى أن تتم الموضوع وتصبح أباً ) وأحسست بعطرها ليلة أمس ، وتذكرت الأفكار التي نبتت في رأسي بشأنها في الظلام . وسمعت محجوب يضحك ويقول : ( لا تقل لي أنك زوج وأب . الرجال يتزوجون على زوجاتهم كل يوم . لن تكون أولهم ولا آخرهم ) . وقلت لمحجوب ، وقد استعدت سيطرتي على نفسي ، وأنا أضحك أيضاً : ( أنت مجنون حقاً ) .
تركت وذهبت ، وإن كنت قد أيقنت من حقيقة ستأخذ كثيرة من راحة بالي فيما بعد . إنني ، بشكل أو بآخر ، أحب حسنة بنت محمود ، أرملة مصطفى سعيد . أنا ، مثله ومثل ود الريس وملايين آخرين ، لست معصوماً من جرثومة العدوى التي يتنزى بها جسم الكون .
احتفلنا بختان الولدين وعدت للخرطوم . تركت زوجتي وابنتي في البلد ، وسافرت في الطريق الصحراوي في سيارة من سيارات المشروع التي ذكرها محجوب . كنت أسافر عادة بالباخرة إلى ميناء كريمة النهري ، ومن هناك آخذ القطار ماراً بأبي حمد وأتبرا إلى الخرطوم . لكنني هذه المرة كنت في عجلة من أمري دون سبب واضح ، ففضلت اختصار الطريق . وقامت السيارة في أول الصباح ، وسارت شرقاً حذاء النيل نحو ساعتين ، ثم اتجهت جنوباً في زاوية مستقيمة وضربت في الصحراء . لا يوجد مأوى من الشمس التي تصعد في السماء بخطوات بطيئة وتصب أشعتها على الأرض كأن بينهما وبين أهل الأرض ثأراً قديماً . لا مأوى سوى الظل الساخن في جوف السيارة ، وهو ليس ظلاً . طريق ممل يصعد ويهبط ، لا شيء يغري العين . شجيرات مبعثرة في الصحراء ، كلها أشواك ، ليست لها أوراق ، أشجار بائسة ليست حية ولا ميتة . تسير السيارة ساعات دون أن يعترض ..
طريقها إنسان أو حيوان . ثم نمر بقطيع من الجمال هي الأخرى عجفاء ضامرة . لا توجد سحابة واحدة تبشر بالأمر في هذه السماء الحارة ، كأنها غطاء الجحيم . اليوم هنا شيء لا قيمة له ، مجرد عذاب يتعذبه الكائن الحي في انتظار الليل . الليل هو الخلاص . وفي حالة تقرب من الحمى طافت برأسي نتف من أفكار ، كلمات من جمل ، وصور لوجوه وأصوات تجيء كلها يابسة كالأعاصير الصغيرة التي تهب في الحقول البور . فيما العجلة ؟ سألتني : ( فيم العجلة ؟ ) قالت : ( ولماذا تمكث أسبوعاً آخر ؟ ) قالت .. الحمارة السوداء ، إعرابي غش عمك وباعه الحمارة السوداء . وقال أبي : ( هل هذا شيء يثير الغضب ؟ ) عقل الإنسان ليس محفوظاً في ثلاجة . إنها هذه الشمس التي لا تطاق . تذوب المخ ، تشل التفكير . ومصطفى سعيد ، وجهه ينبع واضحاً في خيالي كما رأيته أول يوم ، ثم يضيع في أزيز محركات السيارة ، وصوت احتكاك بحصى الصحراء ، وأحاول جاهداً استعادته فلا أستطيع . يوم الاحتفال بختان الولدين ، خلعت حسنة الثوب عن رأسها ورقصت كما تفعل الأم يوم ختان ولديها . يا لها من امرأة . لماذا لا تتزوجها أنت ؟ كيف كانت ايزابيلا سيمور تناجيه ؟ ( اغتلني أيها الغول الأفريقي . احرقني في نار معبدك أيها الإله الأسود . دعني أتلوى في طقوس صلواتك العربيدة المهيجة ) وها هنا منبع النار . ها هو المعبد . لا شيء . الشمس والصحراء ونباتات يابسة وحيوانات عجفاء . ويهتز كيان ..
السيارة حين تنحدر في واد صغير . وتمر بعظام جمل نفق من العطش في هذا التيه . ويعود إلى خيالي وجه مصطفى سعيد في وجه ابنه الأكبر . إنه أكثر الولدين شبهاً به . يوم حفلة الختان أنا ومحجوب شربنا أكثر مما يجب . الناس في بلدنا لرتابة الحياة عندهم يجعلون من أي حدث سعيد مهما صغر عذراً لإقامة حفل كحفل العرس . جررته من يده في الليل ، والمغنون يغنون والرجال يصفقون في قلب الدار . وقفنا أمام باب الغرفة تلك . قلت له : ( أنا وحدي عندي المفتاح . باب من الحديد ) . قال لي محجوب بصوته المخمور : ( هل تدري ما بداخلها ؟ ) قلت له : ( نعم ) قال : ( ماذا ؟ ) فقلت وأنا أضحك تحت وطأة الخمر : ( لا شيء . لا شيء إطلاقاً ) . هذه الغرفة عبارة عن نكتة كبيرة . كالحياة . تحسب فيها سراً وليس فيها شيء . ( لا شيء إطلاقاً ) . وقال محجوب : ( أنت سكران ، هذه الغرفة مليئة من أرضها إلى سقفها بالكنوز . ذهب ، وجواهر ، ودرر ولآلئ . هل تعلم من هو مصطفى سعيد ؟ ) قلت له أن مصطفى سعيد كان أكذوبة ، وضحكت مرة أخرى ضحكة مخمورة وقلت له : ( هل تريد أن تعرف حقيقة مصطفى سعيد ؟ ) فقال محجوب : ( أنت لست سكران بل مجنوناً أيضاً . مصطفى سعيد هو في الحقيقة نبي الله الخضر . يظهر فجأة ويغيب فجأة . والكنوز التي في هذه الغرفة هي كنوز الملك سليمان حملها الجان إلى هنا . وأنت ..
عندك مفتاح الكنز. ( افتح يا سمسم ودعنا نفرق الذهب والجواهر على الناس ) . وكاد محجوب يصرخ ويجمع الناس لولا أنني أغلقت فمه بيدي . وفي الصباح استيقظ كل واحد منا في بيته لا ندري كيف وصلنا . والطريق لا ينتهي عند حد ، والشمس لا تكل . لا غرو أن مصطفى سعيد هرب إلى زمهرير الشمال . إيزابيلا سيمور قالت له : ( المسيحيون يقولون أن إلههم صلب ليحمل وزر خطاياهم . إنه إذن مات عبثاً . فما يسمونه الخطيئة ما هو إلا زفرة الاكتفاء بمعانقتك يا إله وثنيتي . أنت إلهي ، ولا إله غيرك ) . لا بد أن هذا هو سبب انتحارها ، وليس مرضها بالسرطان . كانت مؤمنة حين قابلته . كفرت بدينها وعبدت إلها كعجل بني إسرائيل . يا للغرابة . يا للسخرية . الإنسان لمجرد أنه خلق عند خط الاستواء ، بعض المجانين يعتبرونه عبداً وبعضهم يعتبرونه إلهاً . أين الاعتدال ؟ أين الاستواء ؟ وجدي بصوته النحيل وضحكته الخبيثة حين يكون على سجيته ، أين وضعه في هذا البساط الأحمدي ؟ هل هو حقيقة كما أزعم أنا وكما يبدو هو ؟ هل هو فوق هذه الفوضى ؟ لا أدري . ولكنه بقي على أي حال ، رغم الأوبئة وفساد الحكم وقسوة الطبيعة . وأنا موقن أن الموت حين يبرز له سيبتسم هو في وجه الموت . ألا يكفي هذا ؟ هل ابن آدم مطالب بأكثر من هذا ؟ وبرز لنا من وراء التل إعرابي جاء يهرول نحونا ، وقطع الطريق على السيارة فتوقفنا . بدنه وثيابه بلون الأرض . وسأله السائق ماذا ..
يريد ؟ قال : ( أعطوني سيجارة أو تنباك لوجه الله . لي يومان لم أذق طعم التنباك ) . لم يكن عندنا تنباك فأعطيته سيجارة . وقلنا بالمرة نقف قليلاً ونستريح من عناء الجلوس . لم أرَ في حياتي إنساناً يشرب السجائر بتلك اللهفة . جلس الإعرابي على مؤخرته وأخذ يشفط الدخان بنهم فوق الوصف . بعد دقيقتين مد يده فأعطيته سيجارة أخرى . التهمها كما فعل مع الأولى . ثم أخذ يتلوى على الأرض كأنه مصاب بالصرع . وبعدها تمدد على الأرض وطوق رأسه بيديه وهمد تماماً كأنه ميت . وظل هكذا طول مكوثنا ، زهاء ثلث ساعة . ولما دارت محركات السيارة ، هب واقفاً ، إنساناً بعث إلى الحياة ، وأخذ يحمدني ويدعو الله لي بطول العمر ، فرميت له علبة السجائر بما بقي فيها . وثار الغبار خلفنا ، وراقبت الإعرابي يجري نحو خيام مهلهلة عند شجيرات ناحية الجنوب . عندها غنيمات وأطفال عراة . أين الظل يا إلهي ؟ مثل هذه الأرض لا تنبت إلا الأنبياء . هذا القحط لا تداويه إلا السماء . والطريق لا ينتهي والشمس لا ترحم ، والسيارة الآن تولول ولولة على أرض من الحصى مبسوطة كالمائدة . ( إنا قوم منقطع بنا فحدثونا أحاديث نتجمل بها ) . من قال هذا ؟ ثم : ( كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ) . والسائق لا يتكلم . امتداد للمكنة التي يديرها ، يلعنها أحياناً ويشتمها ، والأرض حولنا دائرة غرقى في السراب . ( وظل يرفعنا آل ويخفضنا آل وتلفظنا بيد إلى بيد ) . محمد سعيد العباسي ، ..
يا له من شاعر . وأبو نواس ( شربنا شرب قوم ظمئوا من عهد عاد ) . هذه أرض اليأس والشعر ولا أحد يغني . ولقينا سيارة حكومية معطلة حولها خمسة عساكر وشاويش متدرعين البنادق . وقفنا . شربوا من مائنا وأكلوا من زادنا وأعطيناهم البنزين . قالوا إن امرأة من قبيلة المريصاب قتلت زوجها والحكومة ذاهبة لتقبض عليها . ما اسمها ؟ ما اسمه ؟ لماذا قتلته ؟ لا يعلمون فقط إنها من قبيلة المريصاب وأنها قتلته وأنه زوجها . ولكنهم سيعرفونه . قبائل المريصاب والهواوير والكبابيش . القضاة المقيم منهم والمتنقل . مفتش شمالي كردفان ، مفتش جنوبي الشمالية ، مفتش شرقي الخرطوم . الرعاة على مساقط الماء . المشايخ والنظار . البدو في خيام الشعر ، في مفارق الوديان . كلهم سيعرفون اسمها ، فليس كل يوم تقتل امرأة رجلاً ، بله زوجها ، في هذه الأرض التي لم تترك الشمس فيها قتلاً لقاتل . وخطرت لي فكرة ، قلبتها في ذهني ثم قررت أن أعبر عنها وأرى ما يحدث . قلت لهم إنها لم تقتله بل هو مات من ضربة الشمس ، كما ماتت إيزابيلا سيمور وشيلا غرينود وآن همند وجين مورس . لم يحدث شيء . وقال الشاويش : ( كان عندنا قمندان بوليس ملعون اسمه ماجور كوك ) . لا فائدة . لا دهشة . وساروا وسرنا . الشمس هي العدو . إنها الآن في كبد السماء تماماً ، كما يقول العرب . يا للكبد الحرى . وستظل هكذا ساعات لا تتحرك ، أو هكذا يخيل للكائن الحي ، حتى يئن الحجر ويبكي ..
الشجر ويستغيث الحديد . بكاء امرأة تحت رجل عن الفجر ، وفخذان بيضاوان مفتوحتان . هما الآن كعظام الجمال الجافة المتناثرة في الصحراء . لا طعم . لا رائحة ، لا خير . لا شر . عجلات السيارة تصدم الحصى بحقد . طريقه المعوج سرعان ما يؤدي به إلى كارثة . وفي الغالب تكون الكارثة واضحة أمامه وضوح الشمس ، بحيث أننا نعجب كيف كان رجلاً ذكياً كهذا ، هو في الحقيقة في غاية الغباء . إنه منح قدراً عظيماً من الذكاء ولكنه حرم الحكمة . إنه أحمق ذكي . هذا ما قاله القاضي في ( الأولد بيلي ) قبل أن يصدر الحكم . والطريق لا ينتهي والشمس . سأكتب لمسز روبنسن . تعيش في شانكلن في آيل أوف وايت . علق عنوانها بذاكرتي من حديث مصطفى سعيد تلك الليلة . زوجها مات بالتايفوئيد ودفن في القاهرة في مقبرة الإمام الشافعي . نعم ، اعتنق الإسلام . مصطفى سعيد قال أنها حضرت المحاكمة من أولها إلى آخرها . كان هادئاً طوال المدة . بعد أن صدر الحكم بكى على صدرها . مسحت رأسه وقبلته على جبهته وقالت : ( لا تبك يا طفلي العزيز ) . لم تكن تحب جين مورس . حذرته من زواجها . سأكتب لها فلعلها تلقي الضوء ، لعلها تذكر أشياء هو نسيها أو أهمل ذكرها . وانتهت الحرب فجأة بالنصر . شفق المغيب ليس دماً ولكنه حناء في قدم المرأة ، والنسيم الذي يلاحقنا من وادي النيل يحمل عطراً لن ينضب في خيالي ما دمت حياً . وكما تحط ..
قافلة رحالها حططنا رحلنا . بقي من الطريق أقله . طعمنا وشربنا . صلى أناس صلاة العشاء ، والسواق ومساعدوه أخرجوا من أضابير السيارة قناني الخمر ، وأنا استلقيت على الرمل وأشعلت سيجارة وتهت في روعة السماء . والسيارة أيضاً سُقيت الماء والبنزين والزيت ، وهي الآن ساكنة راضية كمهرة في مراحها . انتهت الحرب بالنصر لنا جميعاً ، الحجارة والأشجار والحيوانات والحديد ، وأنا الآن تحت هذه السماء الجميلة الرحيمة أحس أننا جميعاً أخوة . الذي يسكر والذي يصلي والذي يسرق والذي يزني والذي يقاتل والذي يقتل . الينبوع نفسه . ولا أحد يعلم ماذا يدون في خلد الإله . لعله لا يبالي . لعله ليس غاضباً . في ليلة مثل هذه تحس أنك تستطيع أن ترقى إلى السماء على سلم من الحبال . هذه أرض الشعر والممكن وابنتي اسمها آمال . سنهدم وسنبني وسنخضع الشمس ذاتها لإرادتنا وسنهزم الفقر بأي وسيلة . السواق الذي كان صامتاً طوال اليوم هذا قد ارتفعت عقيرته بالغناء . صوت عذب سلسبيل لا تحسب أنه صوته . يغني لسيارته كما كان الشعراء في الزمن القديم يغنون لجمالهم :
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wadbashir.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 795
تاريخ التسجيل : 30/03/2012
العمر : 68
الموقع : wadbashir.2morpg.Com

موسم الهجرة الي الشمال 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: موسم الهجرة الي الشمال 4   موسم الهجرة الي الشمال 4 Emptyالإثنين نوفمبر 02, 2015 5:10 pm

دركسونك مخرطة وقايم على بولاد
وغير ست النفور الليلة ما في رقاد
وارتفع صوت آخر يجاوبه :
ناوين السفر من دار كول والكمبو ..
هوزز راسه فرحان بالسفر يقنبه
أب دومات غرفن عرقه اتنادن به
ضرب الفجة وأصبح ناره تاكل الجنبة
ثم نبع صوت ثالث يجاوب الصوتين :
واوحيحي ووا وجع قلبي
من صيدة القنص الفترت كلبي
القاري العلم من دينه بتسلبي
والماشي الحجاز من جدة بتقلبي
نحن هكذا وكل سيارة تمر بنا طالعة أو نازلة ، تقف ، 

حتى اجتمعت قافلة عظيمة ، أكثر من مائة رجل طعموا 

وشربوا وصلوا وسكروا . ثم تحلقنا حلقة كبيرة ، ودخل 

بعض الفتيان وسط الحلقة ورقصوا كما ترقص البنات . 

وصفقنا وضربنا الأرض بأرجلنا وحمحمنا بحلوقنا ، 

وأقمنا في قلب الصحراء فرحاً للاشيء . وجاء أحد 

بمذياعه الترانزستور ، وضعناه وسط الدائرة ، وصفقنا 

ورقصنا على غنائيه . وخطرت لأحد فكرة ، فصف السواقون 

سياراتهم على هيئة دائرة وسطوا أضوائها على حلقة 

الرقص ، فاشتعلت شعلة من الضوء لا أحسب تلك البقعة 

رأت مثلها من قبل . زغرد الرجال كما تزغرد النساء 

وانطلقت أبواق السيارات جميعاً في آن واحد . وجذب 

الضوء والضجة البدو من شعاب الوديان وسفوح التلال 

المجاورة ، رجال ونساء ، قوم لا تراهم بالنهار ..
كأنهم يذوبون تحت ضوء الشمس . اجتمع خلق عظيم ودخلت 

الحلقة نساء حقيقيات ، لو رأيتهن نهاراً لما أعرتهن 

نظرة ، ولكنهن جميلات في هذا الزمان والمكان . وجاء 

إعرابي بخروف وتكأه وذبحه وشوى لحمه على نار أوقدها 

. وأخرج أحد المسافرين من السيارة صندوقين من 

البيرة وزعهما وهو يهتف : ( في صحة السودان ، في 

صحة السودان ) . ودارت صناديق السجائر وعلب الحلوى 

، وغنت الإعرابيات ورقصن ، وردد الليل والصحراء 

أصداء عرس عظيم كأننا قبيل من الجن . عرس بلا معنى ، 

مجر عمل يائس نبع ارتجالاً كالأعاصير الصغيرة التي 

تنبع في الصحراء ثم تموت . وعند الفجر تفرقنا . عاد 

الأعراب أدراجهم إلى شعاب الأودية . تصايح الناس : ( 

مع السلامة . مع السلامة ) . وركضوا كل إلى سيارته . 

أزت المحركات ، وتحولت الأضواء من المكان الذي كان 

قبل لحظات مسرح أنس ، فعاد إلى سابق عهده ، جزء من 

الصحراء . واتجهت أضواء السيارات ، بعضها نحو 

الجنوب صوب النيل ، وبعضها نحو الشمال صوب النيل . 

وثار الغبار واختفى ثم ثار واختفى . وأدركنا الشمس 

على قمم جبال كرري أعلى أم درمان .
دارت الباخرة حول نفسها حتى لا تكون المحركات في 

مجرى التيار . كل شيء كما يحدث كل مرة . الصفارة 

المبحوحة ، والقوارب من الشاطئ المقابل ، شجر 

الجميز واللغط على رصيف المحطة . إلا من فارق عظيم . 

وخرجت وصافحني محجوب وهو يتجنبني بنظراته . كان 

وحده في استقبالي هذه المرة . وكان خجلاً كأنه يحس 

بالذنب ، أو كأنه يحملني أنا المسئولية . ولم أكد 

أصافحه حتى قلت له : ( كيف تركتم هذا يحدث ؟ ) قال 

محجوب وهو يسوي سرج الحمارة السوداء الطويلة ، 

حمارة عمي عبدالكريم : ( الذي كان الولدان بخير 

وهما عندي ) . إنني لم أفكر في الولدين طوال هذه 

الرحلة المشئومة . كنت أفكر فيها . قلت لمحجوب مرة 

أخرى : ( ماذا حدث ؟ ) لا يزال يتجنب وجهي . ظل 

صامتاً . أصلح الفروة على السرج ، وربط البطان حول 

بطن حماره . أزاح السرج إلى الأمام قليلاً وأمسك عنان 

اللجام ثم قفز . ظللت واقفاً أنتظر الرد الذي لم يأت 

فقفزت ..
أنا أيضاً . قال وهو يلكز حماره : ( كما أخبرتك في 

البرقية . لا فائدة من الخوض في الموضوع . لم نكن 

نتوقع حضورك على أي حال ) . قلت له أشجعه على الكلام 

: ( ليتني عملت بنصيحتك وتزوجتها ) . لم أستفد سوى 

أنني زدت صمته عمقاً . ولا بد أنه كان غاضباً ، فقد 

لكز الحمارة لكزة قوية بكعبه والحمارة لم تفعل شيئاً 

. قلت له وأنا ألاحقه ولا ألحقه : ( منذ وصلتني 

برقيتك وأنا لم آكل ولم أنم ولم أتكلم مع إنسان . 

ثلاثة أيام من الخرطوم بالقطار والباخرة وأنا أفكر 

وأسأل نفسي كيف حدث ما حدث ولا أجد الجواب ) . 

وكأنما رثى لحالي فقال بعطف : ( هذه أسرع مرة تعود 

فيها إلى البلد ) . قلت له : ( نعم . إثنان وثلاثون 

يوماً بالضبط ) . قال : ( هل من جديد في الخرطوم ؟ ) 

قلت له : ( كنا مشغولين في مؤتمر ) . بدا الإهتمام 

على وجهه . فإنه يحب أخبار الخرطوم ، خاصة أخبار 

الفضائح والرشاوي وفساد الحكام . قال بإهتمام بالغ 

واضح ، وقد حز في نفسي أنه نسي ما نحن فيه : ( 

بماذا يتآمرون هذه المرة ؟ ) قلت له بإعياء ، وقد 

فضلت اختصار الطريق : ( وزارة المعارف نظمت مؤتمراً 

دعت له مندوبين عن عشرين قطراً أفريقياً لمناقشة سبل 

توحيد أساليب التعليم في القارة كلها . كنت أنا 

عضواً في سكرتارية المؤتمر ) . قال محجوب : ( 

فليبنوا المدارس أولا ثم يناقشوا توحيد التعليم . 

كيف يفكر هؤلاء الناس ؟ يضيعون الوقت في المؤتمرات 

والكلام الفارغ ونحن هنا ..
أولادنا يسافرون كذا ميلاً للمدرسة . ألسنا بشراً ؟ 

ألسنا ندفع الضرائب ؟ أليس لنا حق في هذا البلد ؟ 

كل شيء في الخرطوم . ميزانية الدولة كلها تصرف في 

الخرطوم . مستشفى واحد في مروي نسافر له ثلاثة أيام 

، النساء يمتن أثناء الوضع . لا توجد داية واحدة 

متعلمة في هذا البلد . وأنت ماذا تصنع في الخرطوم ؟ 

ما الفائدة أن يكون لنا إبن في الحكومة ولا يفعل 

شيئاً ؟ ) .
كانت حمارتي قد فاتته ، فجذبت لحجامها حتى يلحق بي 

وآثرت الصمت . لو كان الوقت غير هذا الوقت لصرخت في 

وجهه ، فأنا وهو هكذا منذ طفولتنا ، يصرخ أحدنا على 

الآخر حين يغضب . ثم نرضى وننسى . ولكنني جائع ومتعب 

وقلبي مثقل بهم عظيم . لو كان الزمان أحسن مما هو 

عليه الآن ، لأضحكته وأغضبته بقصص ذلك المؤتمر . لن 

يصدق أن سادة أفريقيا الجدد ، ملس الوجوه ، أفواههم 

كأفواه الذئاب ، تلمع في أيديهم ختم من الحجارة 

الثمينة ، وتفوح نوصيهم برائحة العطر ، في أزياء 

بيضاء وزرقاء وسوداء وخضراء من الموهير الفاخر 

والحرير الغالي تنزلق على أكتافهم كجلود القطط 

السيامية ، والأحذية تعكس أضواء الشمعدانات ، تصر 

صريراً على الرخام لن يصدق محجوب أنهم تدارسوا تسعة 

أيام في مصري التعليم في أفريقياً في ( قاعة الإستقلال 

) التي بنيت لهذا الغرض ، وكلفت أكثر من مليون جنيه 

، صرح ..
من الحجر والأسمنت والرخام والزجاج ، مستديرة كاملة 

الإستدارة ، وضع تصميمها في لندن ، ردهاتها من رخام 

ابيض جلب من إيطاليا ، وزجاج النوافذ ملون ، قطع 

صغيرة مصفوفة بمهارة في شبكة من خشب التيك ، أرضية 

القاعة مفروشة بسجاجيد عجمية فاخرة ، والسقف على 

شكل قبة مطلية بماء الذهب ، تتدلى من جوانبها 

شمعدانات كل واحد منها بحجم الجمل العظيم . المنصة 

حيث تعاقب وزراء التعليم في أفريقيا طوال تسعة أيام 

من رخام أحمر كالذي في قبر نابليون في الانفاليد ، 

وسطحها أملس لماع من خشب الأبنوس . على الحيطان 

لوحات زيتية ، وقبالة المدخل خريطة واسعة لأفريقيا 

من المرمر الملون ، كل قطر بلون . كيف أقول لمحجوب 

أن الوزير الذي قال في خطابه الضافي الذي قوبل 

بعاصفة من التصفيق : ( يجب ألا يحدث تناقض بين ما 

يتعلمه التلميذ في المدرسة وبين واقع الشعب . كل من 

يتعلم اليوم يريد أن يجلس على مكتب وثير تحت مروحة 

ويسكن في بيت محاط بحديقة مكيف الهواء يروح ويجيء 

في سيارة أمريكية بعرض الشارع . إننا إذا لم نجتث 

هذا الداء من جذوره تكونت عندنا طبقة برجوازية لا 

تمت إلى واقع حياتنا بصلة ، وهي أشد خطراً على 

مستقبل أفريقيا من الاستعمار نفسه ) كيف أقول لمحجوب 

أن هذا الرجل بعينه يهرب أشهر الصيف من أفريقيا إلى 

فيلته على بحيرة لوكارنو ، وأن زوجته تشتري 

حاجياتها من هرودز في لندن ، تجيئها في طائرة خاصة 

، وأن ..
أعضاء وفده أنفسهم يجاهرون بأنه فاسد مرتش ، ضيع 

الضياع وأقام تجارة وعمارة ، وكون ثروة فادحة من 

قطرات العرق التي تنضح على جباه المستضعفين أنصاف 

العارة في الغابات ؟ هؤلاء قوم لا هم لهم إلا بطونهم 

وفروجهم . لا يوجد عدل في الدنيا ولا اعتدال . وقد 

قال مصطفى سعيد : ( إنما أنا لا أطلب المجد ، فمثلي 

لا يطلب المجد ) . لو أنه عاد عودة طبيعية لانضم إلى 

قطيع الذئاب هذا . كلهم يشبهونه ، وجوه وسيمة ووجوه 

وسمتها النعمة . وقد قال أحد الوزراء أولئك في حفلة 

اختتام المؤتمر أنه كان أستاذه . أول ما قدموني له 

هتف : ( إنك تذكرني بصديق عزيز كنت على صلة وثيقة 

به في لندن . الدكتور مصطفى سعيد . كان أستاذي عام 

1928. كان هو رئيساً لقسم الكفاح لتحرير أفريقيا 

وكنت أنا عضواً في اللجنة . يا له من رجل . إنه من 

أعظم الأفريقيين الذين عرفتهم . كانت له صلات واسعة . 

يا إلهي ، ذلك الرجل كانت النساء تتساقط عليه 

كالذئاب . كان يقول سأحرر أفريقيا ب .. ي ) . وضحك 

حقتى بانت مؤخرة حلقه . وأردت أن أسأله ، لكنه 

اختفى في زحمة الرؤساء والوزراء . مصطفى سعيد لم 

يعد يعنيني الآن ، فقد شغلت عنه بنفسي . برقية محجوب 

غيرت كل شيء . حين قرأت رد مسز روبنسن على رسالتي 

أول مرة أحسست بفرح عظيم . وفي القطار قرأتها للمرة 

الثانية ، محاولاً أن أبعد أفكاري عن تلك النقطة التي 

صارت محور دورانها . ولكن دون جدوى .
ومضت الحمير تتقاذف الحجارة بأظلافها ، وقال محجوب : 

( لماذا صمت كأنك أبكم ؟ لماذا لا تقول شيئاً ؟ ) قلت 

له : ( الموظفون أمثالي لا يستطيعون أن يغيروا شيئاً 

. إذا قال سادتنا افعلوا كذا فعلنا . أنت رئيس 

الحزب الوطني الإشتراكي الديمقراطي هنا . إنه الحزب 

الحاكم . لماذا لا تصب غضبك عليهم ؟ ) .
وقال محجوب كالمعتذر : ( لولا .. لولا أن هذه الكارثة 

قد .. يوم الحادث كنا نتأهب للسفر في وفد للمطالبة 

ببناء مستشفى كبير ومدرسة وسطى للبنين ومدرسة أولية 

للبنات ومدرسة زراعة و .. ) وقطع خطبته فجأة ولاذ 

بصمته الغاضب . ونظرت أنا إلى النهر إلى يسارنا 

يلمع بالخطر ويدوي بأصوات مبهمة . ثم أمامنا القباب 

العشر وسط المقبرة . وحزت الذكرى في قلبي ، وقال 

محجوب : ( دفناها أول الصباح دون ضوضاء . أمرنا 

الناس ألا يبكين . لم نقم مأتماً ولم نخبر أحداً . كان 

سيجيئنا البلويس . وتحقيق وفضائح ) . قلت له بذعر : 

( لماذا البوليس ؟ ) نظر إلي برهة ثم سكت ، وبعد 

مدة طويلة قال : ( أنه أعطى ود الريس وعداً . عقدوا 

له عليها . أبوها شتمها وضربها وقال لها : تتزوجينه 

رغم أنفك ، أنا لم أحضر العقد . لم يحضر أحد العقد 

غير بكري وجدك وبنت مجذوب . أصدقاؤه . أنا شخصياً 

حاولت أن أثني ود الريس ..
عن عزمه ، ولكنه أصر . كأنما أصابه هوس ، وكلمت 

أباها فقال أنه لا يصبح أضحوكة ، يقول الناس إبنته لا 

تسمع كلامه . بعد الزواج قلت لود الريس يأخذها 

بالسياسة . أقامت عنده أسبوعين لا تكلمه ولا يكلمها . 

كانت .. كان في حالة لا توصف . كالمجنون . اشتكى 

لطوب الأرض. يقول كيف تكون في بيته امرأة تزوجها 

بسنة الله ورسوله ولا يكون بينهما ما يكون بين الزوج 

وزوجته . كنا نقول له أصبر . ثم .. ، الحمار 

والحمارة نهقا بغتة في آن واحد حتى كدت أسقط من على 

السرج . ولبثت أسأل يومين بطولهما ولا أحد يقول لي . 

كلهم كانوا يتجنبونني بنظراتهم كأنهم شركاء في إثم 

عظيم . وقالت أمي : ( لماذا تركت عملك وجئت ؟ ) قلت 

لها : ( الولدان) . نظرت إلي برهة نظرة فاحصة وقالت 

: ( الأولاد ، أم ، أم الأولاد ؟ ماذا بينك وبينها ؟ 

جاءت لأبيك وقالت له بلسانها : قولوا له يتزوجني . 

بالجرأة وفراغة العين . ( نساء آخر زمن ) . وكله 

كوم والفعل القبيح الذي فعلته كوم ) .
وجدي أيضاً لم يسعفني بشيء ، وجدته راقداً على سريره 

في حالة من الإعياء لم أعرفها فيه . كان كأنما ينبوع 

الحياة عنده قد نضب فجأة ، ظللت جالساً وظل هو لا 

يتكلم . فقط يتأوه من آن لآخر ، ويتقلب على سريره 

ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم . كلما فعل ذلك أحس 

بوخز ، كأن بيني ..
وبين الشيطان سبباً . وبعد انتظار طويل قال يخاطب 

سقف الغرفة : ( لعنة الله على النسوان . النسوان أخوات 

الشيطان . ود الريس ، ود الريس ) . وانفجر جدي يبكي 

. إنني لم أره يبكي في حياتي . بكى طويلاً ثم مسح 

دموعه بطرف ثوبه وصمت حتى ظننته قد نام . بعد زمن 

قال : ( كان رجلاً عديم النظر ، دائماً يضحك ، دائماً 

تجده وقت الشدة . لم يطلب منه أحد حاجة وقال لا . 

ليته سمع كلامي . ينتهي هذه النهاية . لا حول ولا قوة 

إلا بالله . أول مرة يحصل شيء مثل ذلك في هذا البلد 

منذ خلقه الله . محن آخر زمن ) . تشجعت وسألته : ( 

ماذا حدث ؟ ) .
لم يحفل بسؤالي وتشاغل زمناً بمسبحته ثم قال : ( تلك 

القبيلة لا تجيء من ورائها إلا الشر . قلت لود الريس 

: هذه المرأة شؤم . أبعد عنها إنما الأجل .. ) .
وفي صبيحة اليوم الثالث حملت زجاجة الوسكي في جيبي 

وذهبت إلى بنت مجذوب . إذا لم تقل لي بنت مجذوب فلن 

يقول لي أحد . وصبت بنت مجذوب من الزجاجة في إناء 

كبير من الألمون ، وقالت : ( لا بد أنك تريد شيئاً . 

نحن لا نعرف هنا مثل خمر المدن هذه ) .
قلت لها : ( أريد أن أعرف ما حدث . لا أحد يريد أن 

يخبرني ) .
شربت جرعة كبيرة من الإناء وقطبت وجهها وقالت : ( 

الفعل الذي فعلته بنت محمود لا يجري به اللسان . شيء 

ما رأينا ولا سمعنا بمثله لا في الزمن السابق ولا 

اللاحق ) . وتماسكت ، ولبثت أنتظر صابراً حتى مضى ثلث 

الزجاجة والخمر لا تؤثر فيها ، إلا من بهجة وجهها 

تزداد وضوحاً مع الشراب . أغلقت بنت محمود الزجاجة 

وقالت : ( هذا يكفي . خمر النصارى هذه جبارة ، ليست 

كعرق التمر ) نظرت إليها بضراعة فقالت : ( الكلام 

الذي سأقوله لك لن تسمعه من إنسان في البلد . دفنوه 

مع بنت محمود ومع ود الريس المسكين . كلام عيب صعب 

أن يقال ) . ثم نظرت إليَّ نظرة فاحصة بعينيها 

الجريئتين وقالت : ( هذا الكلام لن يعجبك . خصوصاً 

إذا .. ) وأطرقت برهة فقلت لها : ( أريد أن أعرف ما 

حدث كبقية الناس . لماذا أنا الوحيد الذي لا يصح له 

أن يعرف ؟ ) .
أعطيتها سيجارة جذبت منها نفساً وقالت : ( بعد صلاة 

العشاء بزمن استيقظت على صراخ حسنة بنت محمود في 

دار ود الريس . كان البلد ساكناً لا تسمع فيه حساً . 

الحق لله أنني ظننت أن ود الريس أخيراً نال حقه منها . 

الرجل ..
المسكين أشرف على الجنون . أسبوعين مع المرأة لا 

تكلمه ولا تدعه يقربها . وفتحت أذني مرة وهي تصرخ 

وتولول . أللهم يا رب أغفر لي . ضحكت وأنا أسمع 

صراخها . قلت في نفسي : ود الريس ما تزال فيه بقية 

. واشتد الصراخ . وسمعت حركة في بيت بكري لصق بيت 

ود الريس . وسمعت بكري يصيح : يا راجل اختشي على 

دمك . لازم تعمل لك فضيحة وهلولة . ثم سمعت سعيدة 

امرأة بكري تقول يا بت احفظي شرفك ، ما هذه الفضائح 

؟ العروس البكر لا تعمل هذا العمل . كأنك لم تجربي 

الرجال من قبل . وأخذ صراخ بنت محمود يشتد ، ثم 

سمعت ود الريس يصرخ بأعلى صوته : يا بكري . يا حاج 

أحمد . يا بت الريس يا جماعة بت محمود قتلتني . 

قفزت وثوبي يجرجر ورائي لا يكاد يسترني ، وخطيت باب 

بكري وباب محجوب ، وجريت إلى باب ود الريس فوجدت 

باب الحوش مغلقاً . ولولت بأعلى صوتي وجاء محجوب ثم 

بكري ثم اجتمع علينا الناس . ونحن نكسر باب الحوش 

سمعنا صرخة . صرخة واحدة تهد الجبال من ود الريس . 

ثم صرخة مثلها من بنت محمود . ودخلت أنا ومحجوب 

وبكري . قلت لمحجوب : أحبس الناس من دخول البيت . لا 

تدع امرأة تدخل البيت . وخرج محجوب وصرخ في الناس ، 

وعاد ومعه عمك عبدالكريم وسعيد الطاهر الرواسي وحتى 

جدك المسكين جاء منت بيته ) . ..
أخذ العرق يتصبب بغزارة من وجه بنت مجذوب . وجف 

حلقها وأشارت إلى الماء فجئتها به . شربت ومسحت 

العرق من وجهها وقالت : ( أستغفر الله العظيم وأتوب 

إليه . وجدناها في غرفة ود الريس القصيرة المطلة 

على الشارع . كان المصباح موقداً . ود الريس عارياً 

كما ولدته أمه . وبنت محمود ثوبها ممزق وسراويلها . 

هي الأخرى عارية . كان البرش الأحمر يعوم في الدم . 

ورفعت المصباح . وجدت بنت محمود معضوضة ومخدشة في 

كل شبر من جسمها . بطنها . أوراكها . رقبتها . عض 

حلمة نهدها حتى قطعها . الدم يسيل من شفتها السفلى 

. لا حول ولا قوة إلا بالله . وود الريس مطعون أكثر من 

عشرة طعنات . طعنته في بطنه وفي صدره وفي محسنه ) . 

ولم تستطع بنت مجذوب أن تستمر . بلعت ريقها بصعوبة 

وارتعش حلقومها ثم قالت : ( أللهم لا اعتراض على 

حكمك . وجدناها على ظهرها والسكن مغروز في قلبها 

فمها مفتوح ، وعيناها تبحلقان كأنها حية . وود 

الريس لسانه مدلدل بين فكيه ، وذراعاه مرفوعتان في 

الهواء ) .
وغطت بنت مجذوب وجهها بيدها والعرق يتصبب من بين 

أصابعها وقد أخذ صدرها يعلو ويهبط بسرعة وتتابع . 

قالت بصعوبة : ( أستغفر الله العظيم . كانا قد ماتا 

لساعتهما . كان الدم حاراً يبقبق من قلب بنت محمود 

وبين فخذي ود الريس . الدم ملأ البرش والسرير وجرى 

جداول في أرض ..
الغرفة . محجوب أطال الله عمره كان رابط الجأش . حين 

سمع صوت محمود قفز خارجاً وقال لأبيك : إياك أن تدعه 

يدخل . محجوب وبقية الرجال حملوا ود الريس ، وأنا 

وزوجة بكري والنساء الكبار أخذنا بنت محمود . 

كفناهما في ليلتهما . وحملوهما قبل طلوع الشمس . 

ودفنوهما ، هي بجوار أمها وهو بجوار زوجته الأولى 

بنت رجب . بعض النساء بدأن مأتماً . ولكن محجوب بارك 

الله فيه جاء ونهرهن وقال : التي تفتح فمها سأقطع 

رقبتها . أي مأتم يا ولدي يقام في هذه الحالة ؟ هذه 

مصيبة كبيرة حصلت في البلد . طول حياتنا تحت ستر الله 

. آخر الزمن يحصل علينا مثل هذا . أستغفرك وأتوب 

إليك يا رب ) .
وبكت هي أيضاً كما بكى جدي . بكت طويلاً وبحرقة ، ثم 

ابتسمت من خلال دموعها وقالت : ( العجيب في الأمر أن 

زوجته الكبيرة مبروكة لم تصح من نومها طول هذه 

المدة ، مع أن الصياح جذب الناس من طرف الحلة . رحت 

إليها وهززتها فرفعت رأسها وقالت : ( بنت مجذوب ، 

ماذا جاء بك في هذا الوقت ؟ ) قلت لها : ( قومي . 

حصلت قتلة في بيتكم ) . فقالت : ( قتلة من ؟ ) قلت 

لها : ( بنت محمود قتلت ود الريس وقتلت نفسها ) . 

فقالت : ( في ستين داهية ) وواصلت نومها . وكنا 

ونحن نجهز بنت محمود نسمع شخيرها . ولما عاد الناس 

من الدفن وجدناها جالسة تشرب قهوتها .
بعض النساء أردن أن يبكين معها فصرخت فيهن : ( يا 

نساء كل واحدة تروح في حالها . ود الريس حفر قبره 

بيده . وبنت محمود بارك الله فيها ، خلصت منه القديم 

والجديد ) . ثم زغردت . أي والله يا ولدي ، زغردت وقال 

للنساء : ( نكاية فيكن . التي لا تعجبها تشرب من 

البحر ) . أستغفر الله العظيم . أبوها .. محمود في تلك 

الليلة كاد يهلك من البكاء . يخور كالثور . وجدك 

شتم وضرب بعصاه وزعق وبكى . عمك عبدالكريم اشتبك مع 

بكري دون سبب . قال له : ( يحصل ذبح بجوارك وأنت 

نائم ؟ البلد كلها كأنما حل عليه الشياطين في تلك 

الليلة . محجوب وحده كان رابط الجأش . جهز كل شيء . 

أحضر الأكفان لا ندري من أين . أولاد ود الريس عملوا 

دوشة فأسكتهم . منظر لا أراك الله مثله يا ولدي ، يفطر 

القلب ، يشيب الوليد . وكله بلا سبب ولا طلب . انها 

قبلت الرجل الغريب ، لماذا لم تقبل ود الريس ؟ ) .
الحقول نيران ودخان . هذا أوان الإستعداد لزراعة 

القمح . ينظفون الأرض ويجمعون أعواد الذرة والجذوع 

الصغيرة ، ذكريات الموسم الذي انتهى ، ويكومونها 

أكواماً وسط الحقول ويحرقونها . الأرض سوداء مبسوطة 

تستعد للحدث القادم . الرجال قاماتهم منحنية على 

المعاول وبعضهم خلف المحاريث . قمم النخل ترتعش 

للهواء الخفيف وتسكن ، ..
وبخار حار يتصاعد من حقول البرسيم المروية ، تحت 

وطأة الشمس في منتصف النهار . ومع كل هبة ريح يفرح 

أريج الليمون والبرتقال واليوسفندي . خوار ثور أو 

نهيق حمار أو صوت فأس في الحطب . ولكن الدنيا قد 

تغيرت .
ووجدت محجوباً ملطخاً بالطين ، يندى العرق من جسمه 

العاري إلا من خرقة حول وسطه ، يحاول أن يفصل شتلة 

عن النخلة الأم . لم أحيه ولم يلتفت إلي وظل يحفر 

حول الشتلة . لبثت واقفاً أراقبه ، ثم أشعلت سيجارة 

ومددت له الصندوق ، فرفض بإشارة من رأسه . حملت همي 

إلى جذع نخلة قريبة أسندت رأسي إليه . لا مكان لي 

هنا . لماذا لا أحزم حقيبتي وأرحل ؟ هؤلاء القوم لا 

يدهشهم شيء . حسبوا لكل شيء حساب . لا يفرحون لمولد 

ولا يحزنون لموت . حين يضحكون يقولون : ( أستغفر الله ) 

وحين يبكون يقولون : ( أستغفر الله ) . لا يقولون : 

وأنا ماذا تعلمت ؟ ولاحظت محجوباً عاضاً شفته السفلى 

كعادته حين يكون مصمما على عمل . كنت أغلبه في 

المصارعة والجري ، ويغلبني في سباحة النهر إلى 

الشاطئ الآخر وتسلق النخل . لا تستعصي نخلة عليه . 

بيني وبينه من الود كأنه أخ شقيق . ولعن محجوب 

النخلة الصغيرة حين نجح أخيراً في فصلها عن جذع أمها 

دون أن يكسر جذورها . ردم بالتراب الجرح الكبير 

الذي بقي في الجذع ..
حيث كانت ، وقص جريد الشتلة ، وأزال عنها التراب ، 

ورماها لتجف في الشمس . قلت في نفسي إنه سيكون أكثر 

إستعداداً للكلام الآن . جاء إلى الظل حيث أنا وجلس 

ومدد رجليه . ظل صامتاً برهة ثم تنهد وقال : ( 

أستغفر الله ) . مد يده فأعطيته سيجارة . لا يدخن إلا 

حين أكون أنا في البلد ، يقول : ( نحرق فلوس 

الحكومة ) . رمى السيجارة قبل أن يكملها وقال : ( 

أنت تبدو مريضاً . لا بد أن الرحلة قد أرهقتك . لم 

يكن يلزم حضورك حين أرسلت لك البرقية لم أكن أتوقع 

أن تحضر ) .
قلت كأنني أحدث نفسي : ( إنها قتلته وقتلت نفسها . 

طعنته أكثر من عشر طعنات و .. يا للبشاعة ) . إلتفت 

إلي بدهشة وقال : ( من أخبرك ؟ ) . مضيت غير مكترث 

لسؤاله : ( عض حلمة نهدها حتى قطعها وعضها وخدشها 

في كل شبر في جسمها . يا للبشاعة ) . صاح محجوب 

بغضب : ( لا بد أن بنت مجذوب هي التي أخبرتك . لعنها 

الله . لا تمسك لسانها هذا كلام لا يصح أن يقال ) .
قلت له : ( يقال أو لا يقال ، إنه حدث . حدث أمام 

أعينكم ولم تفعلوا شيئاً . وأنت . أنت زعيم ورئيس في 

البلد ولم تفعل شيئاً ) .
وقال محجوب : ( ماذا نفعل ؟ لماذا لم تفعل أنت ؟ 

لماذا لم تتزوجها ؟ فقط تفلح في الكلام . المرأة هي 

التي تجرأت وقالت . عشنا ورأينا النساء تخطب الرجال 

) . قلت له : ( ماذا قالت ؟ ) . قال : ( الذي كان 

قد كان . ما فائدة الكلام ؟ أحمد الله أنك لم تتزوجها . 

الفعل الذي فعلته ليس فعل بني آدم . فعل شياطين ) .
قلت له وأنا أضغط على أسناني : ( ماذا قالت ؟ ) نظر 

إليَّ دون عطف وقال : ( حين راح لها أبوها وشتمها 

جاءتني في البيت مع شروق الشمس . قالت تخلصها من ود 

الريس وزحمة الخطاب . فقط تعقد عليها . لا تريد منك 

شيئاً . قالت يتركني مع ولدي ، لا أريد منه قليلاً ولا 

كثيراً قلت لها : لا تدخلك في المشاكل . نصحتها أن 

تقبل الأمر الواقع . أبوها ولي أمرها وهو حر التصرف 

. وقلت لها : ود الريس لن يعيش إلى الأبد . رجل 

مجنون وامرأة مجنونة . ما ذنبنا نحن ؟ ماذا كان 

بوسعنا أن نفعل ؟ مسكين أبوها . منذ ذلك اليوم 

المشئوم وهو طريح الفراش . لا يخرج ولا يقابل أحداً . 

ماذا أفعل أنا أو غيري إذا كان العالم قد أصيب 

بالخبل ؟ واتضح أن جنون بنت محمود ليس مثله في 

الأولين ولا الآخرين ) .
قلت له وأنا أبذل جهداً كبيراً حتى لا أبكي : ( حسنة 

لم تكن مجنونة . كانت أعقل امرأة في البلد . أنتم 

المجانين .
كانت أعقل امرأة في البلد . وأجمل امرأة في البلد . 

حسنة لم تكن مجنونة ) .
ضحك محجوب . قهقه بالضحك . سمعته يقول ويضحك : ( يا 

للعجب . يا بني آدم أصح لنفسك . عد لصوابك أصبحت 

عاشقاً آخر الزمن . جننت مثل ود الريس . المدارس 

والتعليم رهفت قلبك . تبكي كالنساء . أما والله عجايب 

. حب ومرض وبكاء . إنها لم تكن تساوي مليماً . لولا 

الحياء ما كانت تستاهل الدفن . كنا نرميها في البحر 

أو نترك جثتها للصقور ) .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wadbashir.yoo7.com
 
موسم الهجرة الي الشمال 4
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» موسم الهجرة الي الشمال 5
» موسم الهجرة الي الشمال 1
» موسم الهجرة الي الشمال 2
» موسم الهجرة الي الشمال 3
» رابط منتدي ودبشير ارض الشمال

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ودبشير ارض الشمال :: القسم الثاني اجتماعي :: المكتبة العامة-
انتقل الى: