( كان أباً لأولادي ) .
إذا صدق ظني ، فإن الصوت لم يكن حزيناً ، بل كانت فيه مناغاة . وتركت الصمت يوسوس لها فلعلها تقول شيئاً . نعم ، ذلك هو : ( كان زوجاً كريماً وأباً كريماً . طول حياته لم يقصر معنا ) . فقلت لها وأنا أميل في الظلام تجاهها : ( هل كنت تعرفين من أين هو ؟ ) .
قالت : ( من الخرطوم ) .
قلت : ( وماذا يعمل في الخرطوم ؟ ) .
قالت : ( في التجارة ) .
قلت : ( ولماذا جاء إلى هنا ؟ ) .
قالت : ( الله أعلم ) .
وكدت أيأس . ثم هبت نسمة نشطة في اتجاهي حاملة ..
شحنة من العطر ، فوق ما كنت أطمع فيه . واستنشقت العطر وأحسست بيأسي يزداد حدة . وفجأة حدثت فجوة كبيرة في الظلام ، نفذ منها صوت حزين هذه المرة ، حزناً أعمق من غور النهر . قالت : ( أظنه كان يخفي شيئاً ) . لاحقتها بالسؤال : ( لماذا ؟ ) . قالت : ( كان يقضي وقتاً طويلاً بالليل في تلك الغرفة ) قالت : ( لا أدري . إنني لم أدخلها قط . المفتاح عندك . لماذا لا تتحقق بنفسك ؟ ) . نعم ، هبنا قمنا أنا وهي الآن ، في هذه اللحظة ، وأوقدنا المصباح ، ودخلنا ، هل نجده معلقاً من رقبته في السقف ، أم نجده جالساً القرفصاء على الأرض ؟ .
سألتها مرة أخرى : ( لماذا تظنين أنه كان يخفي شيئاً ؟) . صوتها الآن ليس حزيناً وليست فيه مناغاة ، ولكنه مشرشر الأطراف كورقة الذرة : ( أحياناً بالليل في النوم كان يقول كلاماً .. بالرطانة ) ولاحقتها بالسؤال : ( أي رطانة ؟ ) . فقالت : ( لا أدري . مثل الكلام الأفرنجي ) وظلت مائلاً وجهتها في الظلام ، مترقباً ، منتظراً . ( كان يردد في نومه كلمات .. مثل جينا ، جيني .. لا أدري ) .
في هذا المكان نفسه ، في وقت مثل هذا ، في ظلام مثل هذا ، كان صوته يطفو كأحوات ميتة طافية على سطح البحر . ( ظللت أطاردها ثلاثة أعوام . كل يوم يشتد توتر وتر القوس . قوافلي ظمأى والسراب يتوهج قدامي في صحراء الشوق . في تلك الليلة حين همست جين في أذني : (تعال معي . تعال معي) ، كانت حياتي قد اكتملت ولم يكن يوجد سبب للبقاء .. ) وتناهت إلى أذني صرخة طفل من مكان ما في الحي ، وقالت حسنه : ( كأنه كان يحس بدنو أجله . قبل اليوم ، يوم .. قبل موته بأسبوع رتب كل شؤونه . كانت له أطراف جمعها ، وديون دفعها . قبل موته بيوم دعاني وحدثني بما عنده . أوصاني كثيراً على الولدين . أعطاني الرسالة المختومة بالشمع . قال لي . أعطها له إذا حدث شيء . وقال لي إذا حدث شيء فأنت تكون وصياً على الأولاد . قال لي : استشيريه في كل ما تفعلين . بكيت وقلت له : إن شاء الله ما في عوج . فقال : فقط من باب الاحتياط والدنيا غير معروفة . في ذلك اليوم توسلت إليه ألا ينزل إلى الحقل والدنيا فيضان وغرق . كنت خائفة . لكنه قال لا داعي للخوف حين تأخر عن ميعاده . وانتظرنا ، ثم كان ما كان ) .
وأحسست بها تبكي في صمت ، ثم ارتفع بكاؤها ، وتحول إلى شهيق حاد ، ارتعش له الظلام القائم بيني وبينها . ضاع ..
العطر والصمت ، ولم يعد في الكون إلا نحيب امرأة ثكلت زوجاً لا تعرفه ، رجلاً أفرد أشرعته وضرب في عرض البحر وراء سراب أجنبي . وود الريس الشيخ في داره يحلم بليالي الغنج تحت فركة القرمصيص . وأنا ماذا أفعل الآن وسط هذه الفوضى ؟ هل أقوم إليها وأضمها إلى صدري وأجفف دموعها بمنديلي وأعيد الطمأنينة إلى قلبها بكلماتي ؟ وقمت نصف قومة مستنداً إلى ذراعي ، ولكنني أحسست بالخطر ، وتذكرت شيئاً ، فلبثت واقفاً هكذا زمناً في حالة بين الإقدام والإحجام . وبغتة هبط علي عناء ثقيل تهالكت تحت وطأته على المقعد . الظلام كثيف وعميق وأساسي وليست حالة ينعدم فيها الضوء الظلام الآن ثابت كأن الضوء لم يوجد أصلاً ، ونجوم السماء مجرد فتوق في ثوب قديم مهلهل . العطر أضغاث أحلام ، صوت لا يسمع مثل أصوات أرجل النمل في تل الرمل . ونبع من جوف الظلام صوت لم يكن صوتها صوت ليس غاضباً ولا حزيناً ولا خائفاً ، صوت مجرد ، يقول : ( كان المحامون يتصارعون على جثتي . لم أكن أنا المهم بل كانت القضية هي المهمة ) بروفسور ماكسول فستر كين من المؤسسين لحركة التسلح الخلقي في أكسفورد ، وماسوني ، وعضو في اللجنة العليا لمؤتمر الجمعيات التبشيرية البروتستنتية في أفريقيا . لم يكن يخفي كراهيته لي . أيام تتلمذي عليه في أكسفورد كان يقول لي في تبرم واضح : ( أنت يا مستر سعيد خير مثال على أن مهمتنا الحضارية في أفريقيا عديمة الجدوى ، ..
فأنت بعد كل المجهودات التي بذلناها في تثقيفك كأنك تخرج من الغابة لأول مرة ) . ومع ذلك فها هو ذا يستعمل كل مهارته ليخلصني من حبل المشنقة . وسير آرثر هغنز ، تزوج وطلق مرتين ، مغامراته الغرامية معروفة ، مشهور بصلاته مع اليسار والأوساط البوهيمية . قضيت عيد الميلاد سنة 1925 في بيته في سافرون ولدن . كان يقول لي : ( أنت وغد ولكنني لا أكره الأوغاد ، فأنا أيضاً وغد ) . لكنه في هذه المحكمة سيستعمل كل مهارته ليضع حبل المشنقة حول عنقي . والمحلفون أيضاً ، أشتات من الناس ، منهم العامل والطبيب والمزارع والمعلم والتاجر والحانوتي . لا تجمع صلة بيني وبينهم ، لو أنني طلبت استئجار غرفة في بيت أحدهم فأغلب الظن أنه سيرفض ، وإذا جاءت ابنة أحدهم تقول له إنني سأتزوج هذا الرجل الأفريقي ، فيحس حتماً بأن العالم ينهار تحت رجليه . ولكن كل واحد منهم في هذه المحكمة سيسمو على نفسه لأول مرة في حياته . وأنا أحس تجاههم بنوع من التفوق ، فالاحتفال مقام أصلاً بسببي ، وأنا فوق كل شيء مستعمر ، إنني الدخيل الذي يجب أن يبت في أمره . حين جيء لكتشنر بمحمود ود أحمد وهو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعة أتبرا ، قال له : ( لماذا جئت بندي لتخرب وتنهب ؟) الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض ، وصاحب الأرض طأطأ رأسه ولم يقل شيئاً . فليكن أيضاً ذلك شأني معهم . إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة ، ..
وقعقعة سنابك خيل اللنبى وهي تطأ أرض القدس . البواخر مخرت عرض النيل أول مرة تحمل المدافع لا الخبز ، وسكك الحديد أنشئت أصلاً لنقل الجنود . وقد أنشأوا المدارس ليعلمونا كيف نقول ( نعم ) بلغتهم . إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوروبي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم وفي فردان ، جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام . نعم يا سادتي ، إنني جئتكم غازياً في عقر داركم . قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ . أنا لست عطيلاً . عطيل كان أكذوبة ) .
بينما كنت أفكر في قول مصطفى سعيد وهو يجلس في هذا المكان عينه ، في ليلة مثل هذه ، كنت أسمع نشيجها بالبكاء كأنه يصلني من بعد ، يختلط في خيالي بأصوات مبعثرة لا بد أنني سمعتها في أوقات متباعدة ، ولكنها تداخلت في ذهني كأجراس كنيسة صراخ طفل في مكان ما في الحي ، وصياح ديك ، ونهيق حمار ، وأصوات عرس تأتي من الضفة الأخرى للنهر . لكنني الآن أسمع صوتاً واحداً فقط ، صوت بكائها الممض . ولم أفعل شيئاً . جلست حيث أنا بلا حراك وتركتها تبكي وحدها لليل حتى سكتت . وكان لا بد أن أقول شيئاً ، فقلت : ( التعلق بالماضي لا ينفع أحداً . عندك الولدان ، وأنت ما زلت شابة في مقتبل العمر . فكري في المستقبل . ومن يدري ، لعلك تقبلين واحداً من الخطاب العديدين الذين يطلبونك ) . ..
أجابت فوراً ، يحرم والأمر أدهشني : ( بعد مصطفى سعيد لا أدخل على رجل ) . ولم أكن أنوي أن أقول لها ذلك ، ولكنني قلت : ( ود الريس يريد زواجك ، وأبوك وأهلك لا يمانعون . كلفني أن أتوسط له عندك ) .
وصمتت فترة طويلة حتى ظننت أنها لن تقول شيئاً ، وفكرت في أن أقوم وأذهب . وأخيراً أحسست بصوتها في الظلام كأنه نصل : ( إذا أجبروني على الزواج ، فإنني سأقتله وأقتل نفسي ) .
وفكرت في عدة أشياء أقولها ، لكنني ما لبثت أن سمعت المؤذين ينادي : ( الله أكبر . الله أكبر ) لصلاة العشاء ، فوقفت هي أيضاً ، وخرجت دون أن أقول شيئاً . وأن أشرب قهوة الصباح جاءني ود الريس . كنت أنوي الذهاب إلى داره ولكنه لم يمهلني . قال إنه جاء ليذكرني بدعوة البارحة ، ولكنني كنت أعلم أنه لم يستطع الصبر فجاء ليعرف مني نتيجة وساطتي . قلت له حالماً جلس : ( لا فائدة . إنها لا تريد الزواج إطلاقاً . لو كنت منك لتركت هذا الموضوع البتة ) .
لم أكن أحسب أن الخبر سيقع عليه كما وقع فعلاً . لكن ود الريس الذي يبدل النساء كما يبدل الحمير ، يجلس أمامي
لآن . وجهه مؤبد وجفناه يرتعشان ، وقد عض شفته السفلى حتى كان يقطعها . أخذ يتململ في مقعده وينقر الأرض في عصبية بالغة بعصاه . خلع حذاءه من رجله اليمنى ولبسه عدة مرات ، وكان يتأهب للقيام ثم يجلس ، ويفتح فمه كأنه يريد أن يتكلم ثم يسكت . يا للعجب هل معقول أن ود الريس عاشق ؟ وقلت له : ( لن تعدم امرأة غيرها تتزوجها ) .
قال وعيناه الذكيتان لم تعودا ذكيتين ، أصبحتا كرتين من الزجاج قد استقرتا على حالة واحدة جامدة : ( لن أتزوج غيرها . ستقبلني وأنفها صاغرة . هل تظن أنها ملكة أو أميرة ؟ الأرمل في هذا البلد أكثر من جوع البطن . تحمد الله أنها وجدت زوجاً مثلي ) .
قلت له : ( إن كانت امرأة كسائر النساء فلماذا الإصرار ؟ أنت تعلم أنها رفضت رجالاً غيرك ، بعضهم أصغر منك سناً . إذا أرادت أن تتفرغ لتربية ولديها فلماذا لا تتركونها وشأنها ؟ ) . بغتة تدفق من ود الريس غضب جنوني لم أكن أظن أنه من طبيعته . ثار ثورة عارمة ، وقال شيئاً أدهشني حقيقة : ( أسأل نفسك لماذا ترفض بنت محمود الزواج . أنت السبب . لا شك أن بينك وبينها شيئاً . ما دخلك أنت ؟ أنت لست أباها ولا أخاها ولا ولي أمرها . إنها ستتزوجني رغم أنفك وأنفها . أبوها قبل وأخواتها قبلوا . الكلام الفارغ الذي تتعلمونه في ..
المدارس لا يسير عندنا . هذا البلد فيه الرجال قوامون على النساء ) . ولا أعلم ماذا كان يحدث لولا أن أبي دخل في تلك اللحظة ، وقمت فوراً وخرجت .
ورحت إلى محجوب في حقله . كان محجوب في مثل سني ، قضينا طفولتنا معاً ، وكنا نجلس على درجين متلاصقين في المدرسة الأولية . وكان أذكى مني . ولما انتهينا من مرحلة التعليم الأولي . قال محجوب : ( هذا القدر من التعليم يكفي ، القراءة والكتابة والحساب . نحن ناس مزارعون مثل آبائنا وأجدادنا . كل ما يلزم المزارع من التعليم ، ما يمكنه من كتابة الخطابات وقراءة الجرائد ومعرفة فروض الصلاة . وإذا كانت لنا مشكلة نعرف نتفاهم مع الحكام ) .
مضيت أنا في ذلك السبيل ، وتحول محجوب إلى طاقة فعالة في البلد ، فهو اليوم رئيس للجنة المشروع الزراعي ، والجمعية التعاونية ، وهو عضو في لجنة الشفخانة التي كادت تتم ، وهو على رأس كل وفد يقوم إلى مركز المديرية لرفع الظلامات . وحين جاء الاستقلال أصبح محجوب من زعماء الحزب الوطني الاشتراكي الديمقراطي في البلد . كنا أحياناً نتذاكر أيام الطفولة في القرية فيقول لي : ( لكن أنظر أين أنت الآن وأين أنا . أنت صرت موظفاً كبيراً في الحكومة وأنا مزارع في هذه البلدة المقطوعة ) . وأقول له بإعجاب حقيقي : ( أنت الذي نجحت
لا أنا ، لأنك تؤثر على الحياة الحقيقة في القطر . أما نحن فموظفون لا نقدم ولا نؤخر . الناس أمثالك هم الورثاء الشرعيون للسلطة . أنتم عصب الحياة . أنت ملح الأرض ) . ويضحك محجوب ويقول : ( إذا كنا نحن ملح الأرض فهي أرض ماسخة ) .
ضحك أيضاً بعد أن سمع قصتي مع ود الريس وقال : ( ود الريس رجل مخرف لا يعني ما يقول ) . قلت له : ( أنت تعلم أن علاقتي بها علاقة يمليها الواجب لا أكثر ولا أقل ؟ ) . فقال محجوب : ( لا تلتفت لتخريف ود الريس . سمعتك في البلد لا تشوبها شائبة . أهل البلد كلهم يلهجون بحمدك لأنك تقوم بالواجب نحو أولاد مصطفى سعيد ، رحمه الله ، خير قيام لقد كان على أي حال رجلاً غريباً لا تربطك به رابطة ) . وسكت قليلاً ثم قال : ( إنما إذا كان أبو المرأة وإخوانها راضين فلا حيلة لأحد ) .
قلت له : ( ولكن إذا كانت لا تريد الزواج ..) وقاطعني قائلاً : ( أنت لا تعرف نظام الحياة هنا . المرأة للرجل ، والرجل رجل حتى لو بلغ أرذل العمر ) . قلت له : ( ولكن إذا كانت لا تريد الزواج .. ) وقاطعني قائلاً : ( في هذا العصر ) . ..
وقال محجوب : ( الدنيا لم تتغير بالقدر الذي تظنه . تغيرت أشياء . طلمبات الماء بدل السواقي ، محاريث من حديد بدل محاريث الخشب . أصبحنا نرسل بناتنا للمدارس . راديوهات . أوتومبيلات . تعلمنا شرب الويسكي والبيرة بدل العرقي والمريسة . لكن كل شيء كما كان ) . وضحك محجوب وهو يقول : ( الدنيا تتغير حقيقة حين يصير أمثالي وزراء في الحكومة ) . وأضاف وهو ما يزال يضحك : ( وهذا طبعاً من رابع المستحيلات ) .
قلت لمحجوب ، وقد سرى عني : ( هل تظن أن ود الريس وقع في غرام حسنه بنت محمود ؟ ) . قال محجوب : ( لا يستبعد . ود الريس رجل صبابة . وهو منذ سنتين يلهج بذكرها . وقد طلبها من قبل وأبوها قبل ولكنها رفضت . وانتظروا لعلها تقبل مع مرور الزمن ) . قلت لمحجوب : ( لكن لماذا هذا الغرام الفجائي ؟ ود الريس يعرف حسنه بنت محمود منذ كانت طفلة . هل تذكرها وهي طفلة شرسة تتسلق الشجر وتصارع الأولاد ؟ كانت وهي فتاة تسبح معنا عارية في النهر . ماذا جد الآن ؟ ) .
وقال محجوب : ( ود الريس كهؤلاء الناس المغرمين باقتناء الحمير ، الواحد منهم لا تعجبه الحمارة إلا إذا رأى رجلاً آخر راكباً عليها . يراها حينئذ جميلة يسعى جاهداً لشرائها حتى ..
ولو دفع فيها أكثر مما تستحق ) . وصمت مدة يفكر ثم قال : ( ولكن الحقيقة أن بنت محمود قد تغيرت بعد زواجها من مصطفى سعيد . كل النسوان يتغيرن بعد الزواج لكنها هي خصوصاً تغيرت تغيراً لا يوصف . كأنها شخص آخر . حتى نحن أندادها الذين كنا نلعب معها في الحي ، ننظر إليها اليوم فنراها شيئاً جديداً ، هل تعرف ؟ كنساء المدن ) .
وسألت محجوب عن مصطفى سعيد فقال : ( رحمه الله . كان يحترمني وكنت أحترمه . لم تكن الصلة بيننا وثيقة أول الأمر . ولكن عملنا معاً في لجنة المشروع قرب بيننا . موته كان خسارة لا تعوض . هل تعلم ، أنه ساعدنا مساعدة قيمة في تنظيم المشروع . كان يتولى الحسابات . خبرته في التجارة أفادتنا كثيراً . وهو الذي أشار علينا باستغلال أرباح المشروع في إقامة طاحونة للدقيق . لقد وفرت علينا أتعاباً كثيرة ، وأصبح الناس اليوم يجيئونها من أطراف البلد . وهو الذي أشار علينا أيضاً بفتح دكان تعاوني . الأسعار الآن عندنا لا تزيد عن الأسعار في الخرطوم . زمان ، كما تعلم ، كانت البضائع تأتي مرة أو مرتين في الشهر بالباخرة . كان التجار يخزنونها حتى تنقطع كلية من السوق ، ثم يبيعونها بأضعاف مضاعفة . المشروع يملك اليوم عشرة لواري تجلب لنا البضائع كل يوم والآخر مباشرة من الخرطوم وأم درمان . ورجوته أكثر من مرة أن يتولى الرئاسة ولكنه كان يرفض ..
ويقول إنني أجدر منه . العمدة والتجار كانوا يكرهونه كراهية شديدة لأنه فتح عيون أهل البلد وأفسد عليهم أمرهم بعد موته قامت إشاعات بأنهم دبروا قتله . مجر كلام . لقد مات غرقاً . عشرات الرجال ماتوا غرقاً ذلك العام . كان عقلية واسعة . ذلك هو الرجل الذي كان يستحق أن يكون وزيراً في الحكومة لو كان يوجد عدل في الدنيا .
فقلت لمحجوب : ( السياسة أفسدتك . أصبحت لا تفكر إلا في السلطة . دعك من الوزارات والحكومة وحدثني عنه كإنسان . أي نوع من الناس كان هو ؟ ) .
وظهرت الدهشة على وجهه وقال : ( ماذا تقصد أي نوع من الناس ؟ إنه كان كما ذكرت لك ) . ولم أستطع أن أجد الكلمات المناسبة لأوضح لمحجوب قصدي . وقال هو : ( مهما يكن .. ايش السبب في اهتمامك بمصطفى سعيد ؟ لقد سألتني عنه كذا مرة من قبل ؟ ) . واستطرد محجوب قبل أن أرد على كلامه : ( تعرف ؟ لا افهم لماذا جعلك وصياً على ولديه . طبعاً أنت تستحق شرف الأمانة وقد قمت بها خير قيام . لكنك كنت أقلنا معرفة به . نحن معه هنا في البلد ، وأنت كنت تراه من العام إلى العام . كنت أتوقع أن يجعلني أو يجعل جدك وصياً . جدك كان صديقه الحميم . كان يحب الاستماع إلى حديثه . كان يقول ..
لي : تعرف يا محجوب ؟ حاج أحمد رجل فريد من نوعه . وكنت أقول له : حاج أحمد رجل مخرف . فيزعل جداً ويقول : ( لا ، لا تقل هذا . حاج أحمد جزء من التاريخ ) . قلت لمحجوب : ( أنا على أي حال وصي اسمياً . الوصي الحقيقي هو أنت . الولدان هنا معك . وأنا بعيد في الخرطوم ) . فقال محجوب : ( إنهما ولدان ذكيان مؤدبان . فيهما مخايل أبيهما . سيرهما في الدراسة أحسن ما يكون ) . فقلت له : ( ماذا يحدث لهما إذا تم موضوع الزواج المضحك الذي يريده ود الريس ؟ ) . فقال محجوب : ( هون عليك . حتماً ود الريس سينشغل بامرأة أخرى . وعلى أسوأ الفروض تتزوجه . لا أظنه يعيش أكثر من عام أو عامين . وبكون لها سهم في أرضه وزرعه الكثير ) . ثم ، مثل ضربة مفاجئة تنزل على أم الرأس ، نزل علي قول محجوب : ( لماذا لا تتزوجها أنت ؟ ) خفق قلبي بين جنبي خفقاناً كاد يفلت زمامه من يدي . ولم أجد الكلمات إلا بعد مدة . قلت لمحجوب وصوتي يرتجف : ( لا شك أنك تمزح ) . فقال : ( جد . لماذا لا تتزوجها ؟ أنا متأكد أنها ..
ستقبل . أنت وصي على الولدين ، وبالأحرى أن تتم الموضوع وتصبح أباً ) وأحسست بعطرها ليلة أمس ، وتذكرت الأفكار التي نبتت في رأسي بشأنها في الظلام . وسمعت محجوب يضحك ويقول : ( لا تقل لي أنك زوج وأب . الرجال يتزوجون على زوجاتهم كل يوم . لن تكون أولهم ولا آخرهم ) . وقلت لمحجوب ، وقد استعدت سيطرتي على نفسي ، وأنا أضحك أيضاً : ( أنت مجنون حقاً ) .
تركت وذهبت ، وإن كنت قد أيقنت من حقيقة ستأخذ كثيرة من راحة بالي فيما بعد . إنني ، بشكل أو بآخر ، أحب حسنة بنت محمود ، أرملة مصطفى سعيد . أنا ، مثله ومثل ود الريس وملايين آخرين ، لست معصوماً من جرثومة العدوى التي يتنزى بها جسم الكون .
احتفلنا بختان الولدين وعدت للخرطوم . تركت زوجتي وابنتي في البلد ، وسافرت في الطريق الصحراوي في سيارة من سيارات المشروع التي ذكرها محجوب . كنت أسافر عادة بالباخرة إلى ميناء كريمة النهري ، ومن هناك آخذ القطار ماراً بأبي حمد وأتبرا إلى الخرطوم . لكنني هذه المرة كنت في عجلة من أمري دون سبب واضح ، ففضلت اختصار الطريق . وقامت السيارة في أول الصباح ، وسارت شرقاً حذاء النيل نحو ساعتين ، ثم اتجهت جنوباً في زاوية مستقيمة وضربت في الصحراء . لا يوجد مأوى من الشمس التي تصعد في السماء بخطوات بطيئة وتصب أشعتها على الأرض كأن بينهما وبين أهل الأرض ثأراً قديماً . لا مأوى سوى الظل الساخن في جوف السيارة ، وهو ليس ظلاً . طريق ممل يصعد ويهبط ، لا شيء يغري العين . شجيرات مبعثرة في الصحراء ، كلها أشواك ، ليست لها أوراق ، أشجار بائسة ليست حية ولا ميتة . تسير السيارة ساعات دون أن يعترض ..
طريقها إنسان أو حيوان . ثم نمر بقطيع من الجمال هي الأخرى عجفاء ضامرة . لا توجد سحابة واحدة تبشر بالأمر في هذه السماء الحارة ، كأنها غطاء الجحيم . اليوم هنا شيء لا قيمة له ، مجرد عذاب يتعذبه الكائن الحي في انتظار الليل . الليل هو الخلاص . وفي حالة تقرب من الحمى طافت برأسي نتف من أفكار ، كلمات من جمل ، وصور لوجوه وأصوات تجيء كلها يابسة كالأعاصير الصغيرة التي تهب في الحقول البور . فيما العجلة ؟ سألتني : ( فيم العجلة ؟ ) قالت : ( ولماذا تمكث أسبوعاً آخر ؟ ) قالت .. الحمارة السوداء ، إعرابي غش عمك وباعه الحمارة السوداء . وقال أبي : ( هل هذا شيء يثير الغضب ؟ ) عقل الإنسان ليس محفوظاً في ثلاجة . إنها هذه الشمس التي لا تطاق . تذوب المخ ، تشل التفكير . ومصطفى سعيد ، وجهه ينبع واضحاً في خيالي كما رأيته أول يوم ، ثم يضيع في أزيز محركات السيارة ، وصوت احتكاك بحصى الصحراء ، وأحاول جاهداً استعادته فلا أستطيع . يوم الاحتفال بختان الولدين ، خلعت حسنة الثوب عن رأسها ورقصت كما تفعل الأم يوم ختان ولديها . يا لها من امرأة . لماذا لا تتزوجها أنت ؟ كيف كانت ايزابيلا سيمور تناجيه ؟ ( اغتلني أيها الغول الأفريقي . احرقني في نار معبدك أيها الإله الأسود . دعني أتلوى في طقوس صلواتك العربيدة المهيجة ) وها هنا منبع النار . ها هو المعبد . لا شيء . الشمس والصحراء ونباتات يابسة وحيوانات عجفاء . ويهتز كيان ..
السيارة حين تنحدر في واد صغير . وتمر بعظام جمل نفق من العطش في هذا التيه . ويعود إلى خيالي وجه مصطفى سعيد في وجه ابنه الأكبر . إنه أكثر الولدين شبهاً به . يوم حفلة الختان أنا ومحجوب شربنا أكثر مما يجب . الناس في بلدنا لرتابة الحياة عندهم يجعلون من أي حدث سعيد مهما صغر عذراً لإقامة حفل كحفل العرس . جررته من يده في الليل ، والمغنون يغنون والرجال يصفقون في قلب الدار . وقفنا أمام باب الغرفة تلك . قلت له : ( أنا وحدي عندي المفتاح . باب من الحديد ) . قال لي محجوب بصوته المخمور : ( هل تدري ما بداخلها ؟ ) قلت له : ( نعم ) قال : ( ماذا ؟ ) فقلت وأنا أضحك تحت وطأة الخمر : ( لا شيء . لا شيء إطلاقاً ) . هذه الغرفة عبارة عن نكتة كبيرة . كالحياة . تحسب فيها سراً وليس فيها شيء . ( لا شيء إطلاقاً ) . وقال محجوب : ( أنت سكران ، هذه الغرفة مليئة من أرضها إلى سقفها بالكنوز . ذهب ، وجواهر ، ودرر ولآلئ . هل تعلم من هو مصطفى سعيد ؟ ) قلت له أن مصطفى سعيد كان أكذوبة ، وضحكت مرة أخرى ضحكة مخمورة وقلت له : ( هل تريد أن تعرف حقيقة مصطفى سعيد ؟ ) فقال محجوب : ( أنت لست سكران بل مجنوناً أيضاً . مصطفى سعيد هو في الحقيقة نبي الله الخضر . يظهر فجأة ويغيب فجأة . والكنوز التي في هذه الغرفة هي كنوز الملك سليمان حملها الجان إلى هنا . وأنت ..
عندك مفتاح الكنز. ( افتح يا سمسم ودعنا نفرق الذهب والجواهر على الناس ) . وكاد محجوب يصرخ ويجمع الناس لولا أنني أغلقت فمه بيدي . وفي الصباح استيقظ كل واحد منا في بيته لا ندري كيف وصلنا . والطريق لا ينتهي عند حد ، والشمس لا تكل . لا غرو أن مصطفى سعيد هرب إلى زمهرير الشمال . إيزابيلا سيمور قالت له : ( المسيحيون يقولون أن إلههم صلب ليحمل وزر خطاياهم . إنه إذن مات عبثاً . فما يسمونه الخطيئة ما هو إلا زفرة الاكتفاء بمعانقتك يا إله وثنيتي . أنت إلهي ، ولا إله غيرك ) . لا بد أن هذا هو سبب انتحارها ، وليس مرضها بالسرطان . كانت مؤمنة حين قابلته . كفرت بدينها وعبدت إلها كعجل بني إسرائيل . يا للغرابة . يا للسخرية . الإنسان لمجرد أنه خلق عند خط الاستواء ، بعض المجانين يعتبرونه عبداً وبعضهم يعتبرونه إلهاً . أين الاعتدال ؟ أين الاستواء ؟ وجدي بصوته النحيل وضحكته الخبيثة حين يكون على سجيته ، أين وضعه في هذا البساط الأحمدي ؟ هل هو حقيقة كما أزعم أنا وكما يبدو هو ؟ هل هو فوق هذه الفوضى ؟ لا أدري . ولكنه بقي على أي حال ، رغم الأوبئة وفساد الحكم وقسوة الطبيعة . وأنا موقن أن الموت حين يبرز له سيبتسم هو في وجه الموت . ألا يكفي هذا ؟ هل ابن آدم مطالب بأكثر من هذا ؟ وبرز لنا من وراء التل إعرابي جاء يهرول نحونا ، وقطع الطريق على السيارة فتوقفنا . بدنه وثيابه بلون الأرض . وسأله السائق ماذا ..
يريد ؟ قال : ( أعطوني سيجارة أو تنباك لوجه الله . لي يومان لم أذق طعم التنباك ) . لم يكن عندنا تنباك فأعطيته سيجارة . وقلنا بالمرة نقف قليلاً ونستريح من عناء الجلوس . لم أرَ في حياتي إنساناً يشرب السجائر بتلك اللهفة . جلس الإعرابي على مؤخرته وأخذ يشفط الدخان بنهم فوق الوصف . بعد دقيقتين مد يده فأعطيته سيجارة أخرى . التهمها كما فعل مع الأولى . ثم أخذ يتلوى على الأرض كأنه مصاب بالصرع . وبعدها تمدد على الأرض وطوق رأسه بيديه وهمد تماماً كأنه ميت . وظل هكذا طول مكوثنا ، زهاء ثلث ساعة . ولما دارت محركات السيارة ، هب واقفاً ، إنساناً بعث إلى الحياة ، وأخذ يحمدني ويدعو الله لي بطول العمر ، فرميت له علبة السجائر بما بقي فيها . وثار الغبار خلفنا ، وراقبت الإعرابي يجري نحو خيام مهلهلة عند شجيرات ناحية الجنوب . عندها غنيمات وأطفال عراة . أين الظل يا إلهي ؟ مثل هذه الأرض لا تنبت إلا الأنبياء . هذا القحط لا تداويه إلا السماء . والطريق لا ينتهي والشمس لا ترحم ، والسيارة الآن تولول ولولة على أرض من الحصى مبسوطة كالمائدة . ( إنا قوم منقطع بنا فحدثونا أحاديث نتجمل بها ) . من قال هذا ؟ ثم : ( كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى ) . والسائق لا يتكلم . امتداد للمكنة التي يديرها ، يلعنها أحياناً ويشتمها ، والأرض حولنا دائرة غرقى في السراب . ( وظل يرفعنا آل ويخفضنا آل وتلفظنا بيد إلى بيد ) . محمد سعيد العباسي ، ..
يا له من شاعر . وأبو نواس ( شربنا شرب قوم ظمئوا من عهد عاد ) . هذه أرض اليأس والشعر ولا أحد يغني . ولقينا سيارة حكومية معطلة حولها خمسة عساكر وشاويش متدرعين البنادق . وقفنا . شربوا من مائنا وأكلوا من زادنا وأعطيناهم البنزين . قالوا إن امرأة من قبيلة المريصاب قتلت زوجها والحكومة ذاهبة لتقبض عليها . ما اسمها ؟ ما اسمه ؟ لماذا قتلته ؟ لا يعلمون فقط إنها من قبيلة المريصاب وأنها قتلته وأنه زوجها . ولكنهم سيعرفونه . قبائل المريصاب والهواوير والكبابيش . القضاة المقيم منهم والمتنقل . مفتش شمالي كردفان ، مفتش جنوبي الشمالية ، مفتش شرقي الخرطوم . الرعاة على مساقط الماء . المشايخ والنظار . البدو في خيام الشعر ، في مفارق الوديان . كلهم سيعرفون اسمها ، فليس كل يوم تقتل امرأة رجلاً ، بله زوجها ، في هذه الأرض التي لم تترك الشمس فيها قتلاً لقاتل . وخطرت لي فكرة ، قلبتها في ذهني ثم قررت أن أعبر عنها وأرى ما يحدث . قلت لهم إنها لم تقتله بل هو مات من ضربة الشمس ، كما ماتت إيزابيلا سيمور وشيلا غرينود وآن همند وجين مورس . لم يحدث شيء . وقال الشاويش : ( كان عندنا قمندان بوليس ملعون اسمه ماجور كوك ) . لا فائدة . لا دهشة . وساروا وسرنا . الشمس هي العدو . إنها الآن في كبد السماء تماماً ، كما يقول العرب . يا للكبد الحرى . وستظل هكذا ساعات لا تتحرك ، أو هكذا يخيل للكائن الحي ، حتى يئن الحجر ويبكي ..
الشجر ويستغيث الحديد . بكاء امرأة تحت رجل عن الفجر ، وفخذان بيضاوان مفتوحتان . هما الآن كعظام الجمال الجافة المتناثرة في الصحراء . لا طعم . لا رائحة ، لا خير . لا شر . عجلات السيارة تصدم الحصى بحقد . طريقه المعوج سرعان ما يؤدي به إلى كارثة . وفي الغالب تكون الكارثة واضحة أمامه وضوح الشمس ، بحيث أننا نعجب كيف كان رجلاً ذكياً كهذا ، هو في الحقيقة في غاية الغباء . إنه منح قدراً عظيماً من الذكاء ولكنه حرم الحكمة . إنه أحمق ذكي . هذا ما قاله القاضي في ( الأولد بيلي ) قبل أن يصدر الحكم . والطريق لا ينتهي والشمس . سأكتب لمسز روبنسن . تعيش في شانكلن في آيل أوف وايت . علق عنوانها بذاكرتي من حديث مصطفى سعيد تلك الليلة . زوجها مات بالتايفوئيد ودفن في القاهرة في مقبرة الإمام الشافعي . نعم ، اعتنق الإسلام . مصطفى سعيد قال أنها حضرت المحاكمة من أولها إلى آخرها . كان هادئاً طوال المدة . بعد أن صدر الحكم بكى على صدرها . مسحت رأسه وقبلته على جبهته وقالت : ( لا تبك يا طفلي العزيز ) . لم تكن تحب جين مورس . حذرته من زواجها . سأكتب لها فلعلها تلقي الضوء ، لعلها تذكر أشياء هو نسيها أو أهمل ذكرها . وانتهت الحرب فجأة بالنصر . شفق المغيب ليس دماً ولكنه حناء في قدم المرأة ، والنسيم الذي يلاحقنا من وادي النيل يحمل عطراً لن ينضب في خيالي ما دمت حياً . وكما تحط ..
قافلة رحالها حططنا رحلنا . بقي من الطريق أقله . طعمنا وشربنا . صلى أناس صلاة العشاء ، والسواق ومساعدوه أخرجوا من أضابير السيارة قناني الخمر ، وأنا استلقيت على الرمل وأشعلت سيجارة وتهت في روعة السماء . والسيارة أيضاً سُقيت الماء والبنزين والزيت ، وهي الآن ساكنة راضية كمهرة في مراحها . انتهت الحرب بالنصر لنا جميعاً ، الحجارة والأشجار والحيوانات والحديد ، وأنا الآن تحت هذه السماء الجميلة الرحيمة أحس أننا جميعاً أخوة . الذي يسكر والذي يصلي والذي يسرق والذي يزني والذي يقاتل والذي يقتل . الينبوع نفسه . ولا أحد يعلم ماذا يدون في خلد الإله . لعله لا يبالي . لعله ليس غاضباً . في ليلة مثل هذه تحس أنك تستطيع أن ترقى إلى السماء على سلم من الحبال . هذه أرض الشعر والممكن وابنتي اسمها آمال . سنهدم وسنبني وسنخضع الشمس ذاتها لإرادتنا وسنهزم الفقر بأي وسيلة . السواق الذي كان صامتاً طوال اليوم هذا قد ارتفعت عقيرته بالغناء . صوت عذب سلسبيل لا تحسب أنه صوته . يغني لسيارته كما كان الشعراء في الزمن القديم يغنون لجمالهم :