أبو بكر الصديق.. عتيق من النار
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل حباً وإعزازاً وتقديراً متفرداً للصديق أبي بكر رضي الله عنه، هذا الحب جسده
الرسول صلى الله عليه وسلم في مواقف عديدة ربما كان أبرزها رحلة الهجرة التي صاحبه فيها أبو بكر، ولم يحظ صحابي
بشرف نبوي مثلما حظي الصديق، فها هو الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث شريف رواه الترمذي “ما لأحد عندنا
يد إلا وقد كافأناه ماخلا أبا بكر فإن له عندنا يداً يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحد قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو
كنت متخذاً خليلاً من الناس لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن صاحبكم خليل الله، وما عرضت الإسلام على أحد إلا كانت له كبوة
إلا أبو بكر فإنه لم يتلعثم في قوله”.

وأبو بكر هو أول من آمن وصدق برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرجال، وله من الألقاب الإيمانية في الإسلام الكثير،
فهو الصديق ورفيق الرسول في رحلة الهجرة إلى يثرب، ومحرر الرقيق والعبيد من الطغاة والمشركين، وأول خليفة للمسلمين بعد
وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وتقول عنه عائشة رضي الله عنها إني لفي بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الفناء
وبيني وبينهم السد إذ أقبل أبو بكر فقال رسول الله : من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى هذا ، ومن يومها سمي أبو بكر العتيق.

وكان أبو بكر قبل البعثة المحمدية يعمل بالتجارة، ويشارك في رحلات الشتاء والصيف، وكانت هذه التجارة تدر عليه ربحاً وخيراً
وفيراً، وفي إحدى رحلاته للشام وبعد أن هيأ تجارته وقبل أن يعود إلى مكة رأى رؤيا استولت على وعيه وملأت وقته بالتفكير والتأمل،
فسارع إلى أحد الرهبان الصالحين يعرفه من كثرة تردده على ملك البلاد وقص عليه ما رآه إذ ان القمر قد غادر مكانه في الأفق الأعلى،
ونزل على مكة حيث تجزأ إلى قطع وأجزاء وتفرقت على جميع منازل مكة وبيوتها، ثم تقاربت هذه الأجزاء مرة أخرى وعاد القمر إلى
كيانه الأول واستقر في حجر أبي بكر فتهلل وجه الراهب الصالح وقال له : لقد أهلت أيامه، فتساءل أبو بكر: من تعني؟ النبي الذي ينتظر؟
فأجابه الراهب: نعم وستؤمن معه وستكون أسعد الناس به.

أول المصدقين

عاد أبو بكر إلى مكة ووصلت إلى أذنيه كلمات قريش عن محمد صلى الله عليه وسلم، فأسرع إلى حيث يجلس الرسول
وقال له : يا أبا القاسم ما الذي بلغني عنك ؟ فسأله النبي: وما بلغك عني يا أبا بكر؟ قال: بلغني أنك تدعو إلى توحيد الله ،
وزعمت أنك رسول الله، فقال نعم يا أبا بكر إن ربي جعلني بشيراً ونذيراً، وجعلني دعوة إبراهيم وأرسلني إلى الناس جميعاً.
فقال أبو بكر سريعاً : والله ما جربت عليك الكذب وإنك لخليق بالرسالة لعظم أمانتك، وصلتك لرحمك وحسن فعالك، مد يدك
فإني أبايعك، وهكذا أصبح أبو بكر من أول شرفاء وأثرياء العرب يؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن آية قرآنية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ومنهم الإمام الواحدي، كما ورد التفسير نفسه
في “الدر المنثور” و”تفسير البغوي”.
ويقول الله سبحانه وتعالى في الآية 15 من سورة الأحقاف “حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر
نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين”.
ويقول الإمام الخازن في تفسيره “باب التأويل في معاني التنزيل” إن هذه الآية على العموم والأصح نزلت في أبي بكر الصديق
رضي الله عنه، وذلك لأنه صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة، والنبي ابن عشرين سنة، وفي تجارة
إلى الشام فنزلا منزلاً فيه سدرة فقعد النبي في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين فقال الراهب : من الرجل
الذي في ظل السدرة ؟ فقال : هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب. فقال الراهب : هذا والله نبي وما استظل تحتها بعد عيسى
أحد إلا هذا وهو نبي آخر الزمان. وقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، فكان لا يفارق النبي صلى الله عليه وسلم في سفر
ولا في حضر، فلما بلغ الرسول أربعين سنة أكرمه الله بنبوته واختصه برسالته، فآمن به أبو بكر وصدقه وهو ابن ثمان وثلاثين سنة،
فلما بلغ أربعين سنة دعا ربه عز وجل وقال “رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي”.
وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إن أبا بكر أسلم أبواه جميعاً ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره، وأوصاه الله
بهما ولزم ذلك من بعده “وأن أعمل صالحاً ترضاه”. وقال ابن عباس أجابه الله تعالى فأعتق تسعاً من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال،
ولم يرد شيئاً من الخير أعانه الله عليه كما دعا “وأصلح لي ذريتي” فأجابه الله تعالى، فلم يكن له ولد إلا آمن، فاجتمع لأبي بكر إسلام
أبويه أبي قحافة عثمان بن عمرو وأمه أم الخير بنت صخر بن عمر، وإبنه عبد الرحمن وابن عبد الرحمن أبي عتيق محمد،
فهؤلاء أربعة، أبو بكر وأبوه وابنه عبد الرحمن وابن ابنه محمد، فكلهم أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم وأسلموا ولم يجتمع ذلك
لأحد في الصحابة غير أبي بكر.

منهج قويم

وقد أرسى أبو بكر الصديق منهجاً قويماً في الخلافة عندما بايعه الجميع خليفة للمسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث وضع أمام المسلمين منهجه الذي يسير عليه،
والدستور الذي سيأخذ نفسه به قبل أن يأخذهم به فقال لهم “أيها الناس قد وليت عليكم ولست بخيركم ولكن نزل القرآن، وسن النبي صلى الله عليه وسلم السنن، فعلمنا،
اعلموا أن أكيس الكيس التقوى، وأن أحمق الحمق الفجور وأن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بحقه، وأن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق، أيها الناس إنما أنا متبع ولست بمبتدع،
فإن أحسنت فأعينوني وإن زغت فقوموني”.

وحين مرض أبو بكر مرض الموت، جاءته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها فقالت

لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى **** إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر فنظر إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين ولكن قولي “وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد”،
ثم قال : إني قد كنت نحلتك حائطاً وإن في نفسي منه شيئاً فرديه إلى الميراث، فقالت نعم.. فردته.

ومات رضي الله عنه في مساء ليلة الثلاثاء الثامن من جمادى الآخرة سنة 13 هجرية، وكانت خلافته سنتين وثلاثة أشهر وعشر ليالٍ.