جمع القرآن في المصاحف


لا يختلف اثنان على أن أهم عمل قام به عثمان رضي الله عنه هو إقدامه على جمع القرآن وحفظه وصونه في المصحف
الشريف الذي لا يزال ينسب إليه حتى عصرنا الحاضر، بحيث بات يعرف منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا بالمصحف
العثماني الشريف .

ولسنا بصدد الحديث عن تاريخ جمع القرآن منذ جمع لأول مرة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما لا بدّ من التذكير
بالخطوات الأولى التي قام بها الصحابيان الكبيران والخليفتان الراشدان: أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب
رضي الله عنهما، قبل أن يؤول الأمر في ما بعد إلى سيدنا عثمان رضي الله عنه، فينهض بروح من المسؤولية الإسلامية
العظيمة لجمعه من جديد، وحفظه وصونه حتى تحقق في المصحف الشريف الذي وصلنا اليوم .

صحف حفصة

ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أشار على أبي بكر الخليفة الأول رضي الله عنه بأن يبادر إلى جمع ما تفرّق من
القرآن الكريم في صحف شتى، قبل أن يبعد العهد بنزوله، ويمضي حفظته الأوّلون، خصوصاً وقد استشهد منهم المئات
في حروب الردة . وقد استجاب الخليفة أبو بكر رضي الله عنه وجمع المصحف الكريم وأودعه عند أم المؤمنين
حفصة بنت عمر . وقد كان مفرقاً في جريد النخل وصفائح الحجارة والعظام والجلود والرقاع، ولم يكن قد رتب بعد
يومئذٍ بحسب السور والموضوعات ولا أشار إلى المكيات والمدنيات .

ويورد المؤرخون القدماء أنه لما كانت أيام أبي بكر قال عمر: “إن اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باليمامة
يتهافتون تهافت الفراش، وإني أخشى ألا يشهدوا مواطن إلاّ فعلوا ذلك، وهم حفظة القرآن . . فهلا جمعته وكتبته؟” . .
فنفر أبو بكر أن يفعل ما لم يفعل رسول الله . ثم أرسل أبو بكر إلى كاتب الوحي زيد بن ثابت، فقال له مشيراً إلى عمر:
“إن هذا قد دعاني إلى أمر فأبيت عليه، وأنت كاتب الوحي، فإن تكن معه أتبعكما، وإن توافقني لا أفعل” .

ويقال إن أبا بكر راجع بعد مدة كاتب الوحي زيد بن ثابت الأنصاري في أمر جمع القرآن بحضور عمر بن الخطاب
من دون الوصول إلى نتيجة، فقال لهما: “وما عليكما لو فعلتما ذلك؟” فنظرا ملياً، ثم قالا: “لا شيء”، فأذن عندئذٍ
أبو بكر بجمعه، وجعل زيد بن ثابت كاتب الوحي، مشرفاً على التدقيق في السور والآيات، فكان يقابل ويقارن
ويدقق ويحقق، يعاونه في ذلك عدد من الحفظة وكتبة الوحي . فكان أن جمعت الآيات وروجع الحفاظ في كل آية،
ولم يشتغلوا يومئذٍ بنسخ ما جمعوه وإرسال النسخ إلى الأمصار، بل كان همهم الأعظم منصباً على تتبع الآيات لجمعها .

اختلاف القراءات

وبعد اتساع الفتوح في ولاية عثمان، تفرق المسلمون في الأمصار، فكان أهل كل مصر يأخذون في تلاوة القرآن الكريم
عن رجل من بقية القراء . ويذكر المؤرخون أن أهل دمشق وحمص أخذوا عن المقداد بن الأسود، وأهل الكوفة عن
ابن مسعود، وأهل البصرة عن أبي موسى الأشعري . وقرأ كثير من أهل الشام بقراءة أبي بن كعب . وكانت وجوه
القراءة التي يؤدى بها القرآن مختلفة باختلاف الأحرف التي نزل عليها . ولا شك أن سماع هذا الاختلاف عند أهل
الأمصار، كان يجعلهم يعجبون لوجوهه في كلام واحد . وخشي عثمان رضي الله عنه من أن يجري ذلك الاختلاف
مجرى مثله من سائر الكلام، فيرى بعضه خيراً من بعضه، ويظن منه الصريح والمدخول والعالي والنازل والأفصح
والفصيح، وأشباه ذلك، وهذا أمر إن هو استفاض فيهم، خرجوا منه، لا ريب، إلى المناقضة والملاحاة، وإلى أن يرد
بعضهم على بعض . هذا يقول: قراءتي وما أخذت به . وذلك يقول: بل قراءتي وما أنا عليه! وليس من وراء هذا
اللجاج إلاّ التكفير والتأثيم . ولا جرم أنها الفتنة التي لا تخلص بعد ذلك من دم . ولذلك كان هم عثمان رضي الله عنه
عظيماً لأنه أراد اجتناب الفتنة على القرآن .

ولما كانت غزوة أرمينيا وغزوة أذربيجان، رأى عثمان رضي الله عنه، كثرة اختلاف القراء في وجوه القراءة حيث
كان كل منهم يبدر على لسانه ما لا يستسيغه الآخر، ويتمارون فيه حتى يكفر بعضهم بعضاً . ففزع عثمان مما سمعه
من ذلك . فأمر باستنساخ الصحف الأولى التي كانت عند أبي بكر رضي الله عنه، وأرسل إلى حفصة بنت عمر
فبعثت إليه بصحف القرآن . ثم أرسل إلى زيد بن ثابت وإلى عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص
وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فأمرهم بأن ينسخوها في المصاحف . ثم قال لرهط القرشيين الثلاثة: ما اختلفتم
فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلسان قريش . وفي رواية أخرى عن زيد بن ثابت: أن عثمان أمره بأن يكتب له مصحفاً بعد أن
رفع إليه أمر الاختلاف . وقال: إني مدخل معك رجلاً فصيحاً، فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إليّ . فجعل معه
“إبان بن سعد بن العاص”، فلما بلغا في الكتابة قوله تعالى: “إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت” . قال زيد: فقلت التابوث .
وقال إبان بن سعد: التابوت، فرفعنا ذلك إلى عثمان، فكتب: التابوت .


وبعث عثمان في كل أفق بمصحف من تلك المصاحف، وكانت سبعة في قول مشهور، فأرسل منها إلى مكة والشام
واليمن والبحرين والبصرة والكوفة . وترك بالمدينة واحداً، وهو مصحفه الذي يسمى “الإمام” . ثم أمر بما عدا ذلك
من صحيفة أو مصحف أن يحرق . وكان جمع عثمان في سنة 25 للهجرة . فاستوثقت الأمة على ذلك بالطاعة،
وأحرق كل امرئ ما كان عنده مما يخالفها .