سفير رسول الله إلى قريش
أتت ولاية الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان عقب ولاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد تطلع الناس أثناء خلافته
إلى أن يستمتعوا بشيء من نعيم الحياة التي كانت ترفل بالكثير من ألوان الحضارة الجديدة المهذبة التي يرونها في الأمصار
التي بلغتها رايات الفتوح في مصر والعراق وبلاد الشام .

تسنم الخليفة عثمان رضي الله عنه ولايته على المسلمين، بمبايعة ومباركة من جميع العرب والمسلمين وفي طليعتهم
الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه . وكان منذ أول عهده بالخلافة محبباً إلى قريش والمسلمين، يرغب فيه القاصي
والداني لشدة ألفته للناس ولشدة معرفته بهم وشدّة تقربه لهم . ولأن الناس بطبيعتهم يفضلون نعيم الحياة على شدّتها
وقسوتها، وقد بدا الخليفة عثمان لهم دمثاً رقيقاً، حلو المعشر وبهيّ الحضور، خصيب الجانب . وهذا ما كان الناس
يريدونه منه، وهذا ما كانوا يطلبون، بعد عناء الحروب وشدّة الزحوف .

جرى عثمان في سياسته الخارجية في الأمصار المفتتحة، تماماً كما عهدها في العهد العمري، وكان يريد أن يحمل العرب
على الاستقرار في المواطن التي نزلوها، والعمل على زرعها واستثمارها، والاطمئنان إلى حياة حضرية رائعة ،
تساعد على رسوخ الدين وتعاليم الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في قلوب المسلمين، حتى يتمكن الإسلام في البلاد
الجديدة، وحتى لا يكون للفساد سبيل في البلاد، ولا يكون للبدع والأضاليل نفاذ إلى العقول والنفوس . وهذا ما جعل
الناس جميعاً يستبشرون بالعهد الجديد .

تولّى عثمان بن عفان رضي الله عنه الخلافة وهو في السبعين من عمره . غير أن هذه السنوات السبعين كانت قد
ملأت حياته نشاطاً وروحه قوة وبدنه مرونة . وكان يبدو كما وصفه القدماء، قوي الجسم بارز الحياة . ينهض إلى
مسؤولياته وهو في أول عهده بالخلافة بروح عالية وهمة جسورة وإرادة حرّة غير مأسورة .

صاحب الهجرتين

هو عثمان بن عفان بن أبي العاص الأموي من بني عبد شمس . وهو يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف .
وله كنيتان: أبو عبدالله وأبو عمر . ويقال إنه ولد في السنة السادسة لعام الفيل . وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة
بن عبد شمس بن عبد مناف، وأمها البيضاء أم حكيم بنت عبدالمطلب، عمة النبي صلى الله عليه وسلم .

اشتغل سيدنا عثمان رضي الله عنه في مطلع حياته بالتجارة . ورافق قوافل قريش التجارية إلى بلاد الشام،
وقد أكسبته أعماله ورحلاته التجارية المال الوفير . فكان غنياً ميسوراً موفوراً، إضافة إلى ما عرف عنه من شيم
كريمة ومسيرة حسنة وسمعة عفيفة وروح لطيفة محببة . وهذا ما جعله عند جميع من عرفه من العرب عموماً،
ومن قريش خصوصاً، الرجل المأمون الأثير والمفضل على الصعد جميعاً .

ومنذ أن بلغ سن الصبا والشباب، كان سيدنا عثمان على صلة وثيقة بسيدنا أبي بكر رضي الله عنه، وذلك لما
كان بينهما من أعمال تجارية، متنت مصالحهما ووطدت الصداقة المتبادلة بينهما . أما القاسم الأخلاقي المشترك،
فهو الرزانة والبعد عن الخطل والسرف، إضافة إلى سجايا السماحة والنبل وشرف النفس .

وقد تقبل عثمان بن عفان الإسلام بدعوة من أبي بكر رضي الله عنه وبايع النبي صلى الله عليه وسلم بحضوره،
وهو الذي كان قد أرضى رسول الله بأخلاقه، ولذا زوجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنته رقية بعد إسلامه .
وهذا ما جعله عرضة للأذى الشديد من قريش، فهاجر بها إلى الحبشة، ثم رجع بعيد ذلك إلى مكة مستأمناً .
وعندما شعر بأن قريش عادت لتترصده بالأذى من جديد، قصد في هجرته الثانية المدينة، مصطحباً
معه زوجته رقية . ولذلك عرف بصاحب الهجرتين . وقد توفيت زوجه رقية في المدينة، في اليوم الذي
أظفر الله به المسلمين على مشركي قريش في معركة بدر الكبرى . ولم يشهد عثمان بدراً، لأنه كان قائماً
على تمريض زوجه، فأسهمه النبي صلى الله عليه وسلم مع الغانمين، وعدّه واحداً من البدريين .

الجهاد بالمال

وبعد وفاة زوجه رقية زوّجه رسول الله صلى الله عليه وسلم شقيقتها أم كلثوم، فعرف منذ ذلك التاريخ
بذي النورين، بعدما كان قد عرف بذي الهجرتين، ودخل سيدنا عثمان رضي الله عنه عهداً آخر مع
النبي صلى الله عليه وسلم فلازم الرسول الكريم ولم يعد يفارقه في سفر ولا حضر، ولا غزو ولا سعي،
حتى كانت بيعة الحديبية المشهورة، فكان سفير رسول الله إلى قريش . إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم
يعلم شدة حب قريش لعثمان ومبلغ احترامها له، ووثوقها العظيم بسيرته وأخلاقه وسمعته الطيبة بين العرب .

والحق أن المؤرخين جميعاً، كانوا يذكرون عثمان رضي الله عنه بأنه الرجل الكريم النفس، والذي يجود بماله
في سبيل عمل الخير، وذلك قبل الإسلام . أما بعد مبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد بدا سخيّ اليد
في طاعة الله عزّ وجل وإعلاء دينه . وقد روى أصحاب السير أنه بذل في تجهيز جيش العسرة من ماله
الخاص، ما لم يبذله أحد من المسلمين . إذ جهز جيشاً بألف بعير وخمسين فرساً .