( وأنت ما إسمك ؟ ) .
( أنا .. أمين . أمين حسن ) .
( سأسميك حسن ) .
ومع الشواء والنبيذ ، انفرجت أساريرها ، وتدفق حب تحس به نحو العالم بأسره ، علي أنا . وأنا لا يعنيني حبها للعالم . ولا سحابة الحزن التي تعبر وجهها من آن لآن ، بقدر ما تعنيني حمرة لسانها حين تضحك ، واكتناز شفتيها ، والأسرار الكامنة في قاع فمها . وتخيلتها عارية ، وأفحشت التخيل وهي تقول لي : ( الحياة مليئة بالألم . لكن يجب علينا أن نتفاءل ، ونواجه الحياة بشجاعة ) .
نعم أنا أعلم الآن أن الحكمة القريبة المنال ، تخرج من أفواه البسطاء ، هي كل أملنا في الخلاص . الشجرة تنمو ببساطة ، وجدك عاش وسيموت ببساطة . ذلك هو السر . صدقت يا سيدتي ، الشجاعة والتفاؤل . ولكن إلى أن يرث المستضعفون الأرض ، وتسرح الجيوش ، ويرعى الحمل آمناً بجوار الذئب ، ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر ، إلى أن يأتي زمان السعادة والحب هذا ، سأظل أنا أعبر عن نفسي بهذه الطريقة الملتوية . وحين أصل لاهثاً قمة الجبل ، وأغرس البيرق ، ثم ألتقط أنفاسي وأستجم تلك يا سيدتي نشوة أعظم عندي من الحب ، ومن السعادة . ولهذا ، فأنا لا أنوي بك شراً ، إلا بقدر ما يكون البحر شريراً ، حين تتحطم السفن على صخوره ، وبقدر ما تكون الصاعقة شريرة حين تشق الشجرة نصفين . وتركزت الفكرة الأخيرة في رأسي ، بشعيرات على ذراعها الأيمن ، قريباً من الرسغ ، ولاحظت أن شعر ذراعيها أكثف مما هو عند النساء عادة وقادني هذا إلى شعر آخر . لابد أنه ناعم غزير مثل نبات السعدة على حافة الجدول . وكأنما سرت الفكرة من ذهني إليها ، فاعتدلت في جلستها وقالت : ( ما بالك تبدو حزيناً ؟ ) . ( هل أبدو حزيناً ؟ أنا على العكس ، سعيد جداً ) . وعادت النظرة الحانية إلى عينيها ، ومدت يدها فأمسكت
يدي وقالت . ( هل تدري أن أمي أسبانية ؟ ) .
( هذا إذن يفسر كل شيء . يفسر لقاءنا صدفة ، وتفاهمنا تلقائياً ، كأننا تعارفنا منذ قرون . لا بد أن جدي كان جندياً في جيش طارق ابن زياد . ولا بد أنه قابل جدتك ، وهي تجني العنب في بستان في اشبيلية . ولا بد أنه أحبها من أول نظرة ، وهي أيضاً أحبته . وعاش معها فترة ثم تركها وذهب إلى أفريقيا . وهناك تزوج . وخرجت أنا من سلالته في أفريقيا . وأنت جئت من سلالته في أسبانيا ) .
هذا الكلام ، والضوء الخافت أيضاً والنبيذ ، أسعدها ، فقرقرت لهاتها بالضحك وقالت : ( يا لك من شيطان ) .
وتخيلت برهة . لقاء الجنود العرب لأسبانيا . مثلي في هذه اللحظة ، أجلس قبالة ايزابيلا سيمور ، ظمأ جنوني تبدد في شعاب التاريخ في الشمال . إنما أنا لا أطلب المجد ، فمثلي لا يطلب المجد .
وأدرت مفتاح الباب بعد شهر من حمى الرغبة ، وهي إلى جانبي ، أندلس خصب ، وقدتها بعد ذلك عبر الممر القصير إلى غرفة النوم ، ولفحتها رائحة الصندل المحروق والند ، فملأت رئتيها بعبير لم تكن تعلم أنه عبير قاتل . كنت تلك الأيام ، حين تصبح القمة مني على مد الذراع ، يعتريني هدوء تراجيدي . كل الحمى والوجيب في القلب ، والتوتر في العصب ،
يتحول إلى هدوء جراح وهو يشق بطن المريض . وكنت أعلم أن الطريق القصير الذي سرناه معاً إلى غرفة النوم ، كان بالنسبة لها طريقاً مضيئاً ، يعبق بعبير التسامح والمحبة ، وكان بالنسبة لي الخطوة الأخيرة ، قبل الوصول إلى قمة الأنانية . وتريثت عند حافة الفراش ، كأنني الخص تلك اللحظة في ذهني ، وألقيت نظرة موضوعية على الستائر الوردية والمراءات الكبيرة ، والأضواء الحذرة في أركان الحجرة ، ثم على تمثال البرونز المكتمل التكوين أمامي . ونحن في قمة المأساة صرخت بصوت ضعيف : ( لا . لا ) . هذا لا يجديك نفعاً الآن . لقد ضاعت اللحظة الخطيرة حين كان بوسعك الامتناع عن اتخاذ الخطوة الأولى . إنني أخذتك على غرة ، وكان بوسعك حينئذ أن تقولي ( لا ) . أما الآن فقد جرفك تيار الأحداث ، كما يجرف كل إنسان ، ولم يعد في مقدورك فعل شيء . لو أن كل إنسان عرف متى يمتنع عن إتخاذ الخطوة الأولى ، لتغيرت أشياء كثيرة . هل الشمس شريرة حين تحيل قلوب ملايين البشر إلى صحاري تتعارك رمالها ويجف فيها حلق النعدليب ؟ وتريثت وأنا أمسح براحة يدي ظاهر عنقها ، وأقبلها في منابع الإحساس . ومع كل لمسة ، مع كل قبلة أحس أن عضلة في جسدها ترتخي ، وتألق وجهها ولمعت عيناها ببريق خاطف ، واستطالت نظراتها كأنها تنظر إلي فتراني رمزاً ليس حقيقة . وسمعتها تقول لي بصوت متضرع مستسلم : ( أحبك ) ، فجاوب صوتها هتاف ضعيف في أعماقي ..
وعيي يدعوني أن أقف . لكن القمة صارت على بعد خطوة ، وبعد ذلك التقط أنفاسي وأستجم . ونحن في قمة الألم عبرت برأسي سحائب ذكريات بعيدة قديمة كبخار يصعد من بحيرة مالحة وسط الصحراء . وانفجرت هي ببكاء ممض محرق ، واستسلمت أنا إلى نوم متوتر محموم .
كانت ليلة قائظة من ليالي شهر يوليو ، وكان النيل قد فاض ذلك العام أحد فيضاناته تلك ، هي تحدث مرة كل عشرين أو ثلاثين سنة ، وتصبح أساطير يحدث بها الآباء ابناءهم . وغمر الماء أغلب الأرض الممتدة بين الشاطئ وطرف الصحراء حيث تقوم البيوت ، وبقيت الحقول كجزيرة وسط الماء . وكان الرجال يتنقلون بين البيوت والحقول في قوارب صغيرة ، أو يقطعون المسافة سباحة ، وكان مصطفى سعيد حسب علمي يجيد السباحة . حدثني ابي ، فقد كنت في الخرطوم وقتها ، أنهم سمعوا بعد صلاة العشاء صراخ نسوة في الحي ، فهرعوا إلى مصدر الصوت فإذا الصراخ في دار مصطفى سعيد . كان من عادته أن يعود من حقله مع مغيب الشمس ، ولكن زوجته انتظرت دون جدوى . وذهبت تسأل عنه هنا وهناك ، فاخبروها أنهم رأوه في حقله والبعض ظن أنه عاد إلى بيته مع بقية الرجال . وانكبت البلد كلها على الشاطئ . الرجال في أيديهم المصابيح وبعضهم في القوارب . وظلوا
يبحثون الليل كله دون جدوى . وأرسلوا إشارات تليفونية إلى مركز البوليس على إمتداد النيل حتى كرمه . ولكن الجثث التي حملها الموج إلى الشاطئ ذلك الأسبوع لم تكن بينها جثة مصطفى سعيد . وفي النهاية أخلدوا إلى الرأي أنه لا بد قد مات غرقاً ، وأن جثمانه قد استقر في بطون التماسيح التي يغص بها الماء في تلك المنطقة .
أما أنا ، فإنه يخامرني ذلك الإحساس الذي اعتراني ليلة سمعته ، فجأة وعلى غير استعداد مني ، يقرأ شعراً إنكليزياً ، وهو ممسك كأس الخمر بيده ، دافناً قامته في الكرسي ، ممدداً رجليه ، ضوء المصباح ينعكس على وجهه ، وعيناه سارحتان كما خير لي في آفاق داخل نفسه . والظلام حولنا في الخارج كأن قوى شيطانية تتضافر على خنق ضوء المصباح . أحياناً تخطر لي فجأة تلك الفكرة المزعجة أن مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقاً ، وأنه فعلاً أكذوبة ، أو طيف أو حلم ، أو كابوس ، ألم بأهل القرية تلك ، ذات ليلة داكنة خانقة ، ولما فتحوا أعينهم مع ضوء الشمس لم يروه .
كان الليل قد بقي أقله حين قمت من عند مصطفى سعيد ، وخرجت وأنا أشعر بالتعب ربما من طول الجلوس ومع ذلك لم أكن أرغب في النوم ، فمضيت أتسكع في شوارع البلد الضيقة المتعرجة ، تلامس وجهي نسمات الليل الباردة التي تهب من الشمال محملة بالندى ، محملة برائحة زهور الطلح وروث البهائم ، ورائحة الأرض التي رويت لتوها بالماء بعد ظمأ أيام ، رائحة
قناديل الذرة في منتصف نضجها ، وعبير أشجار الليمون ، كان البلد كعادته صامتاً في تلك الساعة من الليل ، إلا من طقطقة مكنة الماء على الشاطئ ونباح كلب من حين لآخر ، وصياح ديك منفرد أحسن بالفجر قبل الأوان ، يحاربه صياح ديك آخر ، ثم يخيم الصمت . ومررت ببيت ود الريس الوطيء عند منعطف الدرب ، فرأيت من الطاقة الصغيرة ضوءاً خافتاً ، وسمعت زوجة ود الريس تصرخ باللذة . وأحسست بالخجل لأنني أطلعت على أمر لم يكن من حقي أن أطلع عليه . لم يكن يحق لي أن أظل يقظاً أتسكع في شوارع البلد ، وبقية الناس في أسرتهم ، إنني أعرف هذه القرية شارعاً شارعاً ، وبيتاً بيتاً ، وأعرف أيضاً القباب العشر وسط المقبرة في طرف الصحراء أعلى البلد . والقبور أيضاً ، أعرفها واحداً واحداً ، زرتها مع أبي وزرتها مع أمي وزرتها مع جدي ، وأعرف ساكنيها الذين ماتوا قبل أو يولد أبي والذين ماتوا بعد ولادتي . وقد شيعت مع المشيعين منهم أكثر من مائة ، أساعد في حفر التربة ، وأقف على حافة القبر في زحام الناس ريثما يوسد الميت بحجارته ، وأهيل التراب . فعلت ذلك مع أهل البلد في الصباح ، وفي حمارة القيظ أشهر الصيف ، وبالليل في أيدينا المصابيح . والحقول أيضاً أعرفها ، منذ كانت سواقي ، وأيام القحط حين هجرها الرجال وتحولت الأرض الخصبة أرضاً بلقعاً تسفوها الريح . ثم جاءت مكنات الماء وجاءت الجمعيات التعاونية ، وعاد من نزح من الرجال ، وعادت الأرض كما كانت ، تنتج الذرة في الصيف والقمح في ..
الشتاء . كل هذا رأيته منذ فتحت عيني على الحياة ، ولكنني أبداً لم أرَ القرية في مثل هذه الساعة في أواخر الليل . لا بد أن تلك النجمة الكبيرة الزرقاء المتوهجة هي نجمة الصباح . السماء تبدو أقرب إلى الأرض في مثل هذه الساعة ، قبيل الفجر ، والبلد يلفها ضوء باهت يجعلها كأنها معلقة بين السماء والأرض . وتذكرت وأنا أعبر رقعة الرمل التي تفصل بين بيت ود الريس وبيت جدي ، تلك الصورة التي رسمها مصطفى سعيد ، مناغاة ود الريس مع زوجته . فخذان بيضاوان مفتوحتان . ووصلت عند بيت جدي فسمعته يتلو أوراده استعداداً لصلاة الصبح . ألا ينام أبداً ؟ صوت جدي يصل ، كان آخر صوت أسمعه قبل أن أنام وأول صوت أسمعه حين أستيقظ . وهو على هذه الحال لا أدري كم من السنين كأنه شيء ثابت وسط عالم متحرك ، وأحسست فجأة بروحي تنتعش كما يحدث أحياناً اثر إرهاق طويل ، وصفا ذهني ، وتبخرت الأفكار السوداء التي أثارها حديث مصطفى سعيد . البلد الآن ليس معلقاً بين السماء والأرض ، ولكنه ثابت ، البيوت ثابتة ؟ والشجر ، شجر ، والسماء صافية ولكنها بعيدة . هل كان من المحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد ؟ قال إنه أكذوبة ؟ فهل أنا أيضاً أكذوبة ؟ إنني من هنا . أليست هذه حقيقة كافية ؟ لقد عشت أيضاً معهم ، ولكنني عشت معهم على السطح ، لا أحبهم ولا أكرههم . كنت أطوي ضلوعي على هذه القرية الصغيرة ،
أراها بعين خيالي أينما التفت . أحياناً في أشهر الصيف في لندن ، اثر هطلة مطر ، كنت أشم رائحتها . في لحظات خاطفة قبيل مغيب الشمس ، كنت أراها . في أخريات الليل ، كانت الأصوات الأجنبية تصل إلى أذني كأنها أصوات أهلي هنا . أنا ، لا بد ، من هذه الطيور التي لا تعيش إلا في بقعة واحدة من العالم . صحيح أنني درست الشعر ، بيد أن هذه لا يعني شيئاً . كان من الممكن أن أدرس الهندسة أو الزراعة أو الطب . كلها وسائل لكسب العيش . الوجوه هناك ، كنت أتخيلها ، قمحية أو سوداء ، فتبدو وجوهاً لقوم أعرفهم . هناك مثل هنا ، ليس أحسن ولا أسوأ . ولكنني من هنا ، كما أن النخلة القائمة في فناء دارنا ، نبتت في دارنا ولم تنبت في دار غيرها . وكونهم جاءوا إلى ديارنا ، لا أدري لماذا ، هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلاً أو آجلاً ، كما خرج قوم كثيرون عبر التاريخ من بلاد كثيرة . سكك الحديد ، والبواخر ، والمستشفيات والمصانع ، والمدارس ، ستكون لنا ، وسنتحدث لغتهم ، دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل . سنكون كما نحن ، قوم عاديون ، وإذا كنا أكاذيب ، فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا .
مثل هذه الأفكار أوصلتني إلى فراشي ، وصاحبتني بعد ذلك إلى الخرطوم حيث تسلمت عملي في مصلحة المعارف .
مات مصطفى سعيد منذ عامين ولكنني ما أفتأ أقابله من حين ..
لآخر . لقد عشت خمسة وعشرون عاماً ، وأنا لم أسمع به ولم اره . ثم ، هكذا فجأة أجده في مكان لا يوجد فيه أمثاله . وإذا بمصطفى سعيد ، رغم إرادتي ، جزء من عالمي ، فكرة في ذهني ، طيف لا يريد أن يمضي في حال سبيله . وإذا إحساس بعيد بالخوف ، بأنه من الجائز ألا تكون البساطة هي كل شيء . مصطفى سعيد قال إن جدي يعرف السر . الشجرة تنمو ببساطة ، وجدك عاش وسيموت ببساطة . هكذا . لكن هب أنه كان يسخر من بساطتي ؟ في رحلة بالقطار بين الخرطوم والأبيض ، كان معي في نفس القمرة موظف متقاعد . حين تحرك القطار من كوستي كان الحديث قد وصل بنا إلى أيام دراسته . وعلمت منه أن عدداً من رؤسائي في وزارة المعارف كانوا معاصريه في المدرسة ، وبعضهم كان يزامله في نفس الفصل . ومضى الرجل يذكر أن فلاناً في وزارة الزراعة كان زميله ، والمهندس فلان كان في الفصل الذي أمامه ، وفلاناً ، التاجر الذي اغتنى أيام الحرب ، كان من أبلد خلق الله في فصلهم ، والجراح الشهير فلاناً كان أحسن جناح أيمن في المدرسة كلها أيامهم . وفجأة رأيت وجه الرجل يضيء ، وعينيه تلمعان ، وقال في صوت متحمس منفعل : ( غريبة . تصور أنني نسيت أنبغ تلميذ في فصلنا ولم يخطر على بالي منذ ترك المدرسة . الآن فقط تذكرته . نعم ، مصطفى سعيد ) .
مرة أخرى ذلك الإحساس ، بأن الأشياء العادية أمام ..
عينيك تصبح غير عادية . رأيت نافذة القمرة وبابها يلتقيان ، وخيل لي أن الضوء المنعكس على نظارة الرجل ، في لحظة لا تريد عن طرفة العين ، يتوهج توهجاً خاطفاً كأنه شمس في رابعة النهار . ولا بد أن الدنيا في تلك اللحظة بدت مختلفة بالنسبة للمأمور المتقاعد أيضاً ، إذ أن تجربة كاملة كانت خارج وعيه أصبحت فجأة في متناول اليد . حين رأيت وجهه أول مرة ، قدرت أنه في منتصف الستين . وأنظر إليه الآن وهو يستطرد في سرد ذكرياته البعيدة ، فأرى رجلاً لا يزيد يوماً واحداً عن الأربعين .
( نعم ، مصطفى سعيد كان أنبغ تلميذ في أيامنا . كنا في فصل واحد . كان يجلس في الصف الذي أمام صفنا مباشرة . ناحية اليسار . يا للغرابة ، كيف لم يخطر على بالي قبل الآن مع أنه كان معجزة في ذلك الوقت ؟ كان أشهر طالب في كلية غردون ، أشهر من أعضاء التيم لكرة القدم ، ورؤساء الداخليات ، والخطباء في الليالي الأدبية ، والكتاب في جرائد الحائط ، والممثلين الذائعي الصيت في فرق الدراما . لم يكن له نشاط من هذا القبيل إطلاقاً . كان منعزلاً ومتعالياً ، يقضي أوقات فراغه وحده ، إما في القراءة أو في المشي مسافات طويلة . كنا جميعاً داخليين تلك الأيام ، في كلية غردون حتى أبناء العاصمة المثلثة . كان نابغة في كل شيء ، لم يوجد شيء يستعصي على ذهنه العجيب . كان المدرسون يكلموننا بلهجة ويكلمونه هو بلهجة أخرى . خصوصاً مدرسو
اللغة الإنجليزية ، كانوا كأنما يلقون الدرس له وحده دون بقية التلاميذ . )
وصمت الرجل برهة ، فأحسست برغبة شديدة أن أقول إنني أعرف مصطفى سعيد ، وإن الظروف ألقت بي في طريقه ، فقص علي ، ذات ليلة مظلمة قائظة ، قصة حياته ، وإنه قضى آخر أيامه في قرية مغمورة الذكر عند منحنى النيل ، وإنه مات غرقاً ، وربما انتحاراً ، وجعلني أنا دون سائر الناس وصياً على ولديه . لكنني لم أقل شيئاً ، إنما المأمور المتقاعد هو الذي استطرد :
قطع مصطفى سعيد مرحلة التعليم في السودان قفزاً كان بالفعل كأنه يسابق الزمن . وبينما ظللنا نحن بعده في كلية غردون ، أرسل هو في بعثة إلى القاهرة وبعدها إلى لندن . كان أول سوداني يرسل في بعثة إلى الخارج . كان ابن الإنكليز المدلل . وكنا جميعاً نحسده ، ونتوقع أن يصير له شأن عظيم . نحن كنا ننطق الكلمات الإنكليزية كأنها كلمات عربية . لا نستطيع أن نسكن حرفين متتاليين . أما مصطفى سعيد فقد كان يعوج فمه ، ويمط شفتيه ، وتخرج الكلمات من فمه كما تخرج من أفواه أهلها . كان ذلك يملؤنا غيظاً وإعجاباً في الوقت نفسه . وكنا نطلق عليه ، بخليط من الإعجاب والحقد ( الإنكليزي الأسود) . وعلى أيامنا ، كانت اللغة الإنكليزية هي مفتاح المستقبل لا تقوم لأحد قائمة بدونها . كلية غردون كانت مدرسة إبتدائية . كانوا يعطونها من العلم ما يكفي فقط لملء ..
الوظائف الحكومية الصغرى أول ما تخرجت ، اشتغلت محاسباً في مركز الفاشر . وبعد جهد جهيد قبلوا أن أجلس لإمتحان الإدارة . وقضيت ثلاثين عاماً نائب مأمور . تصور . وقبل أن أحال على المعاش بعامين اثنين فقط رقيت مأموراً . كان مفتش المركز الإنكليزي إلهاً يتصرف في رقعة أكبرى من الجزر البريطانية كلها ، يسكن في قصر طويل عريض مملوء بالخدم ومحاط بالجند . وكانوا يتصرفون كالآلهة . يسخروننا نحن الموظفين الصغار أولاد البلد لجلب العوائد ، ويتذمر الناس منا ويشكون إلى المفتش الإنكليزي . وكان المفتش الإنكليزي طبعاً هو الذي يغفر ويرحم . هكذا غرسوا في قلوب الناس بغضنا ، نحن أبناء البلد ، وحبهم هم المستعمرون الدخلاء . وتأكد من كلامي هذا يا بني . ألم تستقل البلد الآن ؟ ألم نصبح أحراراً في بلادنا ؟ تأكد أنهم احتضنوا أرذال الناس . أرذال الناس هم الذين تبوأوا المراكز الضخمة أيام الإنكليز . كنا واثقين أن مصطفى سعيد سيصير له شأن يذكر . كان أبوه من العبايدة ، القبيلة التي تعيش بين مصر والسودان . إنهم الذين هربوا سلاطين باشا من أسر الخليفة عبدالله التعايشي ، ثم بعد ذلك عملوا رواداً لجيش كتشنر حين استعاد فتح السودان . ويقال أن أمه كانت رقيقاً من الجنوب . من قبائل الزاندي أو الباريا ، الله أعلم . الناس الذين ليس لهم أصل ، هم الذين تبوأوا أعلى المراتب أيام الإنكليز ) .
وكان المأمور المتقاعد يغط في نوم مريح ، حين مر القطار
على خزان سنار ، الخزان الذي بناه الإنكليز عام 1926 ، متجهاً غرباً إلى الأبيض ، على خط حديدي وحيد ، ممتد عبر الصحراء ، كأنه جسر من الحبال بين جبلين شرسين ، بينهما هوة سحيقة ليس لها قرار . مسكين مصطفى سعيد . كان مفروضاً أن يكون له شأن بمقاييس المفتشين والمآمير . ولكنه لم يجد متى قبراً يريح جسده ، في هذا القطر الممتد مليون ميل مربع . وتذكرت ما قاله أن القاضي قبل أن يصدر عليه الحكم في الأولد بيلي قال له : ( إنك يا مستر مصطفى سعيد ، رغم تفوقك العلمي ، رجل غبي . إن في تكوينك الروحي بقعة مظلمة ، لذلك فإنك قد بددت أنبل طاقة يمنحها الله للناس : طاقة الحب ) . وتذكرت أيضاً أنني حين خرجت من بيت مصطفى سعيد تلك الليلة ، كان القمر الماحق قد ارتفع مقدار قامة الرجل في الأفق الشرقي ، وأنني قلت في نفسي أن القمر مقلم الأظافر . لا أدري لماذا خيل لي أن القمر مقلم الأظافر ؟ .
في الخرطوم أيضاً ، عرض لي طيف مصطفى سعيد ، بعد محادثتي مع المأمور المتقاعد بأقل من شهر ، كأنه جن أطلق من سجنه ، سيظل بعد ذلك يوسوس في آذان البشر ، ليقول ماذا ؟ لا أدري . كنا في بيت شاب سوداني يحاضر في الجامعة ، كنا أنا وهو زملاء دراسة في انكلترا . وكان بين الحاضرين رجل إنكليزي يعمل في وزارة المالية . وصل بنا الحديث إلى موضوع الزواج المختلط . وتحول الحديث من نقاش ..
عمومي إلى كلام عن حالات محددة . ثم من هم المتزوجون من أوربيات ؟ لا . فلان ؟ لا . وفجأة .. مصطفى سعيد . قالها الشاب المحاضر في الجامعة ، وعلى وجهه إحساس الفرح ذاته الذي لمحته على وجه المأمور المتقاعد . ومضى الشاب يقول ، تحت سماء الخرطوم المرصعة بالنجوم في أوائل فصل الشتاء : ( مصطفى سعيد كان أول سوداني تزوج إنكليزية ، بل أنه كان أول سوداني تزوج أوروبية إطلاقاً . أظن أنكم لم تسمعوا به ، فقد نزح من زمن تزوج في إنكلترا وتجنس بالجنسية الإنكليزية . غريب أن أحداً هنا لا يذكره ، مع أنه قام بدور خطير في مؤامرات الإنكليز في السودان في أواخر الثلاثينات . إنه من أخلص أعوانهم . وقد استخدمته وزارة الخارجية البريطانية في سفارات مريبة في الشرق الأوسط . وكان من سكرتيري المؤتمر الذي انعقد في لندن سنة 1936 . إنه الآن مليونير ، ويعيش كاللوردات في الريف الإنكليزي ) .
( وسمعت نفسي أقول دون وعي ، بصوت مسموع : مصطفى سعيد ترك ، بعد موته ، ستة أفدنة ، وثلاثة بقرات وثوراً ، وحمارين ، وإحدى عشرة عنزاً ، وخمس نعجات ، وثلاثين نخلة ، وثلاثاً وعشرين شجرة بين سنط وطلح وحراز ، وخمساً وعشرين شجرة ليمون ومثالها برتقال ، وتسعة أرادب قمح وتسعة ذرة ، وبيتاً مكوناً من خمس غرف ، وديوان ، وغرفة واحدة من الطوب الأحمر ، مستطيلة الشكل ، ذات ..
نوافذ خضراء ، سقفها ليس مسطحاً كبقية الغرف ولكنه مثلث كظهر الثور ، وتسعماية وسبعة وثلاثين جنيهاً وثلاثة قروش وخمسة ملاليم نقداً ) .
وفي لحظة لا تزيد عن مقدار ما يشيل البرق ثم يختفي ، رأيت في عيني الشاب الجالس قبالتي شعوراً واضحاً حياً ملموساً ، بالذعر رأيته في اتساع حدق العينين ، وارتعاش الجفن وارتخاء الفك الأسفل . إذا لم يكن خائفاً فلماذا سألني هذا السؤال : ( هل أنت ابنه ؟ ) .
سألني هكذا دون أن يدري هو الآخر لماذا نطق بهذه الكلمات الثلاث ، وهو يعلم تمام العلم من أنا . إنه لم يكن زميلي في الدراسة ، لكننا كنا في إنجلترا في وقت واحد ، وقد جمعتنا مناسبات عدة وشربنا البيرة أكثر من مرة معاً ، في حانات نايتسبردج . هكذا في لحظة خارج حدود الزمان والمكان ، تبدو له الأشياء هو الآخر ، غير حقيقية . يبدو له كل شيء محتملاً . هو أيضاً قد يكون ابن مصطفى سعيد ، أو أخاه أو ابن عمه . العالم في تلك اللحظة القصيرة ، بمقدار ما يطرف جفن العين ، احتمالات لا حصر لها ، كأن آدم وحواء سقطا لتوهما من الجنة .
كل تلك الاحتمالات استقرت على حال واحد حين ضحكت وعاد العالم كما كان ، أشخاصاً ذوي وجوه معروفة وأسماء معروفة ومهن معروفة ، تحت سماء الخرطوم المرصعة بالنجوم أوائل فصل الشتاء . ضحك هو الآخر وقال : ( يا لي من ..
مجنون ! طبعاً أنت لست إبن مصطفى سعيد ولا قريبه وأنت لم تسمع به من قبل في حياتك ، إنني نسيت أنكم معشر الشعراء ، لكم سرحات وشطحات ) .
وفكرت في شيء من المرارة ، أنني في زعم الناس شاعر سواء أردت أو لم أرد ، لأنني قضيت ثلاثة أعوام أنقب في حياة شاعر مغمور من شعراء الإنكليز ، وعدت لأدرس الأدب الجاهلي في المدارس الثانوية قبل أن يرقوني مفتشاً للتعليم الإبتدائي .
وهنا تدخل الرجل الإنكليزي وقال أنه لا يدري صحة ما قيل عن الدور الذي لعبه مصطفى سعيد في مؤامرات السياسة الإنكليزية في السودان . الذي يعلله أن مصطفى سعيد لم يكن إقتصادياً يركن إليه : ( إنني قرأت بعض ما كتب عما أسماه اقتصاد الإستعمار ) . الصفة الغالبة على كتاباته أن إحصائياته لم يكن يوثق بها . كان ينتمي إلى مدرسة الإقتصاديين الفابيانيين الذين يختفون وراء ستار التعميم هروباً من مواجهة الحقائق المدعمة بالأرقام . العدالة ، المساواة ، الإشتراكية .. مجرد كلمات . رجل الإقتصاد ليس كاتباً كتشارلز دكنز ، ولا سياسياً كروزفلت . إنه أداة ، آلة ، لا قيمة لها بدون الحقائق والأرقام والإحصائيات . أقصى ما يستطيع أن يفعله هو أن يحدد العلاقة بين حقيقة وأخرى ، بين رقم وآخر . أما أن تجعل الأرقام تقول شيئاً دون آخر ، فذلك شأن الحكام ورجال السياسة . الدنيا ليست في حاجة إلى مزيد من رجال
السياسة ، لا . مصطفى سعيد هذا لم يكن اقتصادية يوثق به ) . وسألته إن كان قد قابل مصطفى سعيد .
( لا . إنني لم أقابله . كان قد ترك أكسفورد قبلي بمدة لكنني سمعت نتفاً هنا وهناك . يظهر أنه كان زير نساء . خلق لنفسه أسطورة من نوع ما . الرجل الأسود الوسيم ، المدلل في الأوساط البوهيمية . كان كما يبدو واجهة يعرضها أفراد الطبقة الارستقراطية الذين كانوا في العشريان وأوائل الثلاثينات يتظاهرون بالتحرر . ويقال أنه كان صديقاً للورد فلان ولورد علان . وكان أيضاً من الأثيرين عند اليسار الإنكليزي . ذلك من سوء حظه ، لأنه يقال أنه كان ذكياً . لا يوجد على وجه الأرض أسوأ من الاقتصاديين اليساريين ، حتى منصبه الأكاديمي لا أدري تماماً ماذا كان يخيل إلي أنه حصل عليه لأسباب من هذا النوع . كأنهم أرادوا أن يقولوا : انظروا كم نحن متسامحون ومتحررون ! هذا الرجل الأفريقي كأنه واحد منا ! أنه تزوج ابنتنا ويعمل معنا على قدم المساواة ، هذا النوع من الأوروبيين لا يقل شراً ، لو تدرون ، عن المجانين الذين يؤمنون بتفوق الرجل الأبيض في جنوبي أفريقيا وفي الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة . نفس الطاقة العاطفية المتطرفة ، تتجه إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار ، لو أنه فقط تفرغ للعلم لوجد أصدقاء حقيقيين من جميع الأجناس ، ولكنتم قد سمعتم به هنا . كان قطعاً سيعود وينفع بعلمه هذا البلد الذي تتحكم فيه الخرافات . ها أنتم الآن تؤمنون بخرافات ..
من نوع جديد . خرافة التصنيع ، خرافة التأميم الوحدة العربية خرافة الوحدة الأفريقية . إنكم كالأطفال تؤمنون أن في جوف الأرض كنزاً ستحصلون عليه بمعجزة ، وستحلون جميع مشاكلكم ، وتقيمون فردوساً . أوهام . أحلام يقظة . عن طريق الحقائق والأرقام والإحصائيات ، يمكن أن تقبلوا واقعكم وتتعايشوا معه وتحاولوا التغيير في حدود طاقاتكم . وقد كان بوسع رجل مثل مصطفى سعيد أن يلعب دوراً لا بأس به في هذا السبيل ، ولو أنه لم يتحول إلى مهرج بين يدي حفنة من الإنكليز المعتوهين ) .
وبينما انبرى منصور يفند آراء رتشارد ، أخلدت أنا إلى أفكاري ما جدوى النقاش ؟ هذا الرجل رتشارد هو الآخر متعصب . كل أحد متعصب بطريقة أو بأخرى . لعلنا نؤمن بالخرافات التي ذكرها ، ولكنه يؤمن بخرافة جديدة ، خرافة عصرية ، هي خرافة الإحصائيات . ما دمنا سنؤمن بإله ، فليكن إلهاً قادر على كل شيء . أما الإحصائيات الرجل الأبيض ، لمجرد أنه حكمنا في حقبة من تاريخنا ، سيظل أمداً طويلاً يحس نحونا بإحساس الإحتقار الذي يحسه القوي تجاه الضعيف ) . مصطفى سعيد قال لهم : ( إنني جئتكم غازياً . عبارة ميلودرامية ولا شك . لكن مجيئهم ، هم أيضاً ، لم يكن مأساة كما نصور نحن ، ولا نعمة كما يصورون هم . كان عملاً ميلودرامياً سيتحول مع مرور الزمن إلى خرافة عظمى وسمعت منصور يقول لرتشارد : ( لقد نقلتم إلينا مرض ..
اقتصادكم الرأسمالي . ماذا أعطيتمونا غير حفنة من الشركات الاستعمارية نزفت دماءنا وما تزال ؟ ) . وقال له رتشارد : ( كل هذا يدل على أنكم لا تستطيعون الحياة بدوننا . كنت تشكون من الاستعمار ، ولما خرجنا خلقتم أسطورة الاستعمار المستتر . يبدو أن وجودنا ، بشكل واضح أو مستتر ، ضروري لكم كالماء والهواء ) . ولم يكونا غاضبين . كانا يقولان كلاماً مثل هذا ويضحكان على مرمى حجر من خط الاستواء ، تفصل بينهما هوة تاريخية ليس لها قرار .
لكن أرجو ألا يتبادر إلى أذهانكم ، يا سادتي ، أن مصطفى سعيد أصبح هوساً يلازمني في حلي وترحالي . كانت أحياناً تمر أشهر دون أن يخطر على بالي إنه مات على أي حال ، غرقاً ، أو إنتحاراً ، الله وحده يعلم . آلاف الناس يموتون كل يوم . ولو وقفنا نتمعن لماذا مات كل منهم ، وكيف مات ماذا يحدث لنا نحن الأحياء ؟ الدنيا تسير ، باختيارنا أو رغم أنوفنا . وأنا كملايين البشر ، أسير ، أتحرك بحكم العادة في الغالب ، في قافلة طويلة ، تصعد وتنزل ، تحط وترحل . والحياة في هذه القافلة ليست كلها شراً . أنتم ولا شك تدركون ذلك . قد يكون السير شاقاً بالنهار ، البوادي تترامى أمامنا كبحور ليس لها ساحل . نتصبب عراً . وتجف حلوقنا من الظمأ . ونبلغ الحد الذي نظن أن ليس بعده متقدم . ثم تغيب الشمس . ويبرد الهواء . وتتألق ملايين النجوم في السماء . نطعم ونشرب حينئذ ، ويغني مغني الركب . بعضنا يصلي جماعة وراء الشيخ ، وبعضنا يتحلق حلقات يرقصون ويغنون ..
ويصفقون . وفوقنا سماء دافئة رخيمة . وأحياناً نسري بالليل ما طاب لنا السري ، وحين يبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود نقول : ( عند انبلاج الصبح يحمد القوم السري ) . وإذا كان السراب أحياناً يخدعنا ، وإذا كانت رسومنا المحمومة بفعل الحر والعطش تغرر أحياناً بأفكار لا أساس لها من الصحة فلا جرم . أشباح الليل تتبخر مع الفجر ، وحمى النهار تبرد مع نسيم الليل . هل ثمة وسيلة أخرى غير هذه ؟ هكذا كنت أقضي شهرين كل سنة في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل . النهر بعد أن كان يجري من الجنوب إلى الشمال ، ينحني فجأة في زاوية تكاد تكون مستقيمة ، ويجري من الغرب إلى الشرق . المجرى هنا متسع وعميق ، ووسط الماء جزر صغيرة مخضرة ، تحوم عليها طيور بيضاء . وعلى الشاطئين غابات كثيفة من النخل ، وسواقي دائرة ، ومكنة ماء من حين لآخر . الرجال صدورهم عارية ، يلبسون سراويل طويلة ، يقطعون أو يزرعون حين تمر بهم الباخرة كقلعة عائمة وسط النيل يرفعون قاماتهم ويلتفتون إليها برهة ثم يعودون إلى ما كانوا فيه . إنها تمر على هذا المكان وقت الضحى ، مرة في الأسبوع ، وما تزال في ظلال النخل المنعكسة على الماء بقية تنكسر حين يهزها الموج الذي تحدثه محركات الباخرة .