ودبشير ارض الشمال
مرحبا بالزاير الكريم انت لم تسجل بعد سارع
بالتسجيل
او الدخول
‏ ‏ نرجو ان تجدوا ما يسركم و نتعاون معا ليرتقي الي ما نصبو اليه

والله ولي التوفيق
ودبشير ارض الشمال
مرحبا بالزاير الكريم انت لم تسجل بعد سارع
بالتسجيل
او الدخول
‏ ‏ نرجو ان تجدوا ما يسركم و نتعاون معا ليرتقي الي ما نصبو اليه

والله ولي التوفيق
ودبشير ارض الشمال
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ودبشير ارض الشمال

اسلاامي / اجتماعي / ثقافي / رياضي/ برامج والعاب / اكواد دعم منتديات
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  صفحتنا على الفيس بكصفحتنا على الفيس بك  

 

 موسم الهجرة الي الشمال 2

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 795
تاريخ التسجيل : 30/03/2012
العمر : 68
الموقع : wadbashir.2morpg.Com

موسم الهجرة الي الشمال 2 Empty
مُساهمةموضوع: موسم الهجرة الي الشمال 2   موسم الهجرة الي الشمال 2 Emptyالأحد نوفمبر 01, 2015 9:56 pm

( وأنت ما إسمك ؟ ) .
( أنا .. أمين . أمين حسن ) .
( سأسميك حسن ) .
ومع الشواء والنبيذ ، انفرجت أساريرها ، وتدفق حب تحس به نحو العالم بأسره ، علي أنا . وأنا لا يعنيني حبها للعالم . ولا سحابة الحزن التي تعبر وجهها من آن لآن ، بقدر ما تعنيني حمرة لسانها حين تضحك ، واكتناز شفتيها ، والأسرار الكامنة في قاع فمها . وتخيلتها عارية ، وأفحشت التخيل وهي تقول لي : ( الحياة مليئة بالألم . لكن يجب علينا أن نتفاءل ، ونواجه الحياة بشجاعة ) .
نعم أنا أعلم الآن أن الحكمة القريبة المنال ، تخرج من أفواه البسطاء ، هي كل أملنا في الخلاص . الشجرة تنمو ببساطة ، وجدك عاش وسيموت ببساطة . ذلك هو السر . صدقت يا سيدتي ، الشجاعة والتفاؤل . ولكن إلى أن يرث المستضعفون الأرض ، وتسرح الجيوش ، ويرعى الحمل آمناً بجوار الذئب ، ويلعب الصبي كرة الماء مع التمساح في النهر ، إلى أن يأتي زمان السعادة والحب هذا ، سأظل أنا أعبر عن نفسي بهذه الطريقة الملتوية . وحين أصل لاهثاً قمة الجبل ، وأغرس البيرق ، ثم ألتقط أنفاسي وأستجم تلك يا سيدتي نشوة أعظم عندي من الحب ، ومن السعادة . ولهذا ، فأنا لا أنوي بك شراً ، إلا بقدر ما يكون البحر شريراً ، حين تتحطم السفن على صخوره ، وبقدر ما تكون الصاعقة شريرة حين تشق الشجرة نصفين . وتركزت الفكرة الأخيرة في رأسي ، بشعيرات على ذراعها الأيمن ، قريباً من الرسغ ، ولاحظت أن شعر ذراعيها أكثف مما هو عند النساء عادة وقادني هذا إلى شعر آخر . لابد أنه ناعم غزير مثل نبات السعدة على حافة الجدول . وكأنما سرت الفكرة من ذهني إليها ، فاعتدلت في جلستها وقالت : ( ما بالك تبدو حزيناً ؟ ) . ( هل أبدو حزيناً ؟ أنا على العكس ، سعيد جداً ) . وعادت النظرة الحانية إلى عينيها ، ومدت يدها فأمسكت
يدي وقالت . ( هل تدري أن أمي أسبانية ؟ ) .
( هذا إذن يفسر كل شيء . يفسر لقاءنا صدفة ، وتفاهمنا تلقائياً ، كأننا تعارفنا منذ قرون . لا بد أن جدي كان جندياً في جيش طارق ابن زياد . ولا بد أنه قابل جدتك ، وهي تجني العنب في بستان في اشبيلية . ولا بد أنه أحبها من أول نظرة ، وهي أيضاً أحبته . وعاش معها فترة ثم تركها وذهب إلى أفريقيا . وهناك تزوج . وخرجت أنا من سلالته في أفريقيا . وأنت جئت من سلالته في أسبانيا ) .
هذا الكلام ، والضوء الخافت أيضاً والنبيذ ، أسعدها ، فقرقرت لهاتها بالضحك وقالت : ( يا لك من شيطان ) .
وتخيلت برهة . لقاء الجنود العرب لأسبانيا . مثلي في هذه اللحظة ، أجلس قبالة ايزابيلا سيمور ، ظمأ جنوني تبدد في شعاب التاريخ في الشمال . إنما أنا لا أطلب المجد ، فمثلي لا يطلب المجد .
وأدرت مفتاح الباب بعد شهر من حمى الرغبة ، وهي إلى جانبي ، أندلس خصب ، وقدتها بعد ذلك عبر الممر القصير إلى غرفة النوم ، ولفحتها رائحة الصندل المحروق والند ، فملأت رئتيها بعبير لم تكن تعلم أنه عبير قاتل . كنت تلك الأيام ، حين تصبح القمة مني على مد الذراع ، يعتريني هدوء تراجيدي . كل الحمى والوجيب في القلب ، والتوتر في العصب ،
يتحول إلى هدوء جراح وهو يشق بطن المريض . وكنت أعلم أن الطريق القصير الذي سرناه معاً إلى غرفة النوم ، كان بالنسبة لها طريقاً مضيئاً ، يعبق بعبير التسامح والمحبة ، وكان بالنسبة لي الخطوة الأخيرة ، قبل الوصول إلى قمة الأنانية . وتريثت عند حافة الفراش ، كأنني الخص تلك اللحظة في ذهني ، وألقيت نظرة موضوعية على الستائر الوردية والمراءات الكبيرة ، والأضواء الحذرة في أركان الحجرة ، ثم على تمثال البرونز المكتمل التكوين أمامي . ونحن في قمة المأساة صرخت بصوت ضعيف : ( لا . لا ) . هذا لا يجديك نفعاً الآن . لقد ضاعت اللحظة الخطيرة حين كان بوسعك الامتناع عن اتخاذ الخطوة الأولى . إنني أخذتك على غرة ، وكان بوسعك حينئذ أن تقولي ( لا ) . أما الآن فقد جرفك تيار الأحداث ، كما يجرف كل إنسان ، ولم يعد في مقدورك فعل شيء . لو أن كل إنسان عرف متى يمتنع عن إتخاذ الخطوة الأولى ، لتغيرت أشياء كثيرة . هل الشمس شريرة حين تحيل قلوب ملايين البشر إلى صحاري تتعارك رمالها ويجف فيها حلق النعدليب ؟ وتريثت وأنا أمسح براحة يدي ظاهر عنقها ، وأقبلها في منابع الإحساس . ومع كل لمسة ، مع كل قبلة أحس أن عضلة في جسدها ترتخي ، وتألق وجهها ولمعت عيناها ببريق خاطف ، واستطالت نظراتها كأنها تنظر إلي فتراني رمزاً ليس حقيقة . وسمعتها تقول لي بصوت متضرع مستسلم : ( أحبك ) ، فجاوب صوتها هتاف ضعيف في أعماقي ..
وعيي يدعوني أن أقف . لكن القمة صارت على بعد خطوة ، وبعد ذلك التقط أنفاسي وأستجم . ونحن في قمة الألم عبرت برأسي سحائب ذكريات بعيدة قديمة كبخار يصعد من بحيرة مالحة وسط الصحراء . وانفجرت هي ببكاء ممض محرق ، واستسلمت أنا إلى نوم متوتر محموم .
كانت ليلة قائظة من ليالي شهر يوليو ، وكان النيل قد فاض ذلك العام أحد فيضاناته تلك ، هي تحدث مرة كل عشرين أو ثلاثين سنة ، وتصبح أساطير يحدث بها الآباء ابناءهم . وغمر الماء أغلب الأرض الممتدة بين الشاطئ وطرف الصحراء حيث تقوم البيوت ، وبقيت الحقول كجزيرة وسط الماء . وكان الرجال يتنقلون بين البيوت والحقول في قوارب صغيرة ، أو يقطعون المسافة سباحة ، وكان مصطفى سعيد حسب علمي يجيد السباحة . حدثني ابي ، فقد كنت في الخرطوم وقتها ، أنهم سمعوا بعد صلاة العشاء صراخ نسوة في الحي ، فهرعوا إلى مصدر الصوت فإذا الصراخ في دار مصطفى سعيد . كان من عادته أن يعود من حقله مع مغيب الشمس ، ولكن زوجته انتظرت دون جدوى . وذهبت تسأل عنه هنا وهناك ، فاخبروها أنهم رأوه في حقله والبعض ظن أنه عاد إلى بيته مع بقية الرجال . وانكبت البلد كلها على الشاطئ . الرجال في أيديهم المصابيح وبعضهم في القوارب . وظلوا
يبحثون الليل كله دون جدوى . وأرسلوا إشارات تليفونية إلى مركز البوليس على إمتداد النيل حتى كرمه . ولكن الجثث التي حملها الموج إلى الشاطئ ذلك الأسبوع لم تكن بينها جثة مصطفى سعيد . وفي النهاية أخلدوا إلى الرأي أنه لا بد قد مات غرقاً ، وأن جثمانه قد استقر في بطون التماسيح التي يغص بها الماء في تلك المنطقة .
أما أنا ، فإنه يخامرني ذلك الإحساس الذي اعتراني ليلة سمعته ، فجأة وعلى غير استعداد مني ، يقرأ شعراً إنكليزياً ، وهو ممسك كأس الخمر بيده ، دافناً قامته في الكرسي ، ممدداً رجليه ، ضوء المصباح ينعكس على وجهه ، وعيناه سارحتان كما خير لي في آفاق داخل نفسه . والظلام حولنا في الخارج كأن قوى شيطانية تتضافر على خنق ضوء المصباح . أحياناً تخطر لي فجأة تلك الفكرة المزعجة أن مصطفى سعيد لم يحدث إطلاقاً ، وأنه فعلاً أكذوبة ، أو طيف أو حلم ، أو كابوس ، ألم بأهل القرية تلك ، ذات ليلة داكنة خانقة ، ولما فتحوا أعينهم مع ضوء الشمس لم يروه .
كان الليل قد بقي أقله حين قمت من عند مصطفى سعيد ، وخرجت وأنا أشعر بالتعب ربما من طول الجلوس ومع ذلك لم أكن أرغب في النوم ، فمضيت أتسكع في شوارع البلد الضيقة المتعرجة ، تلامس وجهي نسمات الليل الباردة التي تهب من الشمال محملة بالندى ، محملة برائحة زهور الطلح وروث البهائم ، ورائحة الأرض التي رويت لتوها بالماء بعد ظمأ أيام ، رائحة
قناديل الذرة في منتصف نضجها ، وعبير أشجار الليمون ، كان البلد كعادته صامتاً في تلك الساعة من الليل ، إلا من طقطقة مكنة الماء على الشاطئ ونباح كلب من حين لآخر ، وصياح ديك منفرد أحسن بالفجر قبل الأوان ، يحاربه صياح ديك آخر ، ثم يخيم الصمت . ومررت ببيت ود الريس الوطيء عند منعطف الدرب ، فرأيت من الطاقة الصغيرة ضوءاً خافتاً ، وسمعت زوجة ود الريس تصرخ باللذة . وأحسست بالخجل لأنني أطلعت على أمر لم يكن من حقي أن أطلع عليه . لم يكن يحق لي أن أظل يقظاً أتسكع في شوارع البلد ، وبقية الناس في أسرتهم ، إنني أعرف هذه القرية شارعاً شارعاً ، وبيتاً بيتاً ، وأعرف أيضاً القباب العشر وسط المقبرة في طرف الصحراء أعلى البلد . والقبور أيضاً ، أعرفها واحداً واحداً ، زرتها مع أبي وزرتها مع أمي وزرتها مع جدي ، وأعرف ساكنيها الذين ماتوا قبل أو يولد أبي والذين ماتوا بعد ولادتي . وقد شيعت مع المشيعين منهم أكثر من مائة ، أساعد في حفر التربة ، وأقف على حافة القبر في زحام الناس ريثما يوسد الميت بحجارته ، وأهيل التراب . فعلت ذلك مع أهل البلد في الصباح ، وفي حمارة القيظ أشهر الصيف ، وبالليل في أيدينا المصابيح . والحقول أيضاً أعرفها ، منذ كانت سواقي ، وأيام القحط حين هجرها الرجال وتحولت الأرض الخصبة أرضاً بلقعاً تسفوها الريح . ثم جاءت مكنات الماء وجاءت الجمعيات التعاونية ، وعاد من نزح من الرجال ، وعادت الأرض كما كانت ، تنتج الذرة في الصيف والقمح في ..
الشتاء . كل هذا رأيته منذ فتحت عيني على الحياة ، ولكنني أبداً لم أرَ القرية في مثل هذه الساعة في أواخر الليل . لا بد أن تلك النجمة الكبيرة الزرقاء المتوهجة هي نجمة الصباح . السماء تبدو أقرب إلى الأرض في مثل هذه الساعة ، قبيل الفجر ، والبلد يلفها ضوء باهت يجعلها كأنها معلقة بين السماء والأرض . وتذكرت وأنا أعبر رقعة الرمل التي تفصل بين بيت ود الريس وبيت جدي ، تلك الصورة التي رسمها مصطفى سعيد ، مناغاة ود الريس مع زوجته . فخذان بيضاوان مفتوحتان . ووصلت عند بيت جدي فسمعته يتلو أوراده استعداداً لصلاة الصبح . ألا ينام أبداً ؟ صوت جدي يصل ، كان آخر صوت أسمعه قبل أن أنام وأول صوت أسمعه حين أستيقظ . وهو على هذه الحال لا أدري كم من السنين كأنه شيء ثابت وسط عالم متحرك ، وأحسست فجأة بروحي تنتعش كما يحدث أحياناً اثر إرهاق طويل ، وصفا ذهني ، وتبخرت الأفكار السوداء التي أثارها حديث مصطفى سعيد . البلد الآن ليس معلقاً بين السماء والأرض ، ولكنه ثابت ، البيوت ثابتة ؟ والشجر ، شجر ، والسماء صافية ولكنها بعيدة . هل كان من المحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد ؟ قال إنه أكذوبة ؟ فهل أنا أيضاً أكذوبة ؟ إنني من هنا . أليست هذه حقيقة كافية ؟ لقد عشت أيضاً معهم ، ولكنني عشت معهم على السطح ، لا أحبهم ولا أكرههم . كنت أطوي ضلوعي على هذه القرية الصغيرة ،
أراها بعين خيالي أينما التفت . أحياناً في أشهر الصيف في لندن ، اثر هطلة مطر ، كنت أشم رائحتها . في لحظات خاطفة قبيل مغيب الشمس ، كنت أراها . في أخريات الليل ، كانت الأصوات الأجنبية تصل إلى أذني كأنها أصوات أهلي هنا . أنا ، لا بد ، من هذه الطيور التي لا تعيش إلا في بقعة واحدة من العالم . صحيح أنني درست الشعر ، بيد أن هذه لا يعني شيئاً . كان من الممكن أن أدرس الهندسة أو الزراعة أو الطب . كلها وسائل لكسب العيش . الوجوه هناك ، كنت أتخيلها ، قمحية أو سوداء ، فتبدو وجوهاً لقوم أعرفهم . هناك مثل هنا ، ليس أحسن ولا أسوأ . ولكنني من هنا ، كما أن النخلة القائمة في فناء دارنا ، نبتت في دارنا ولم تنبت في دار غيرها . وكونهم جاءوا إلى ديارنا ، لا أدري لماذا ، هل معنى ذلك أننا نسمم حاضرنا ومستقبلنا إنهم سيخرجون من بلادنا إن عاجلاً أو آجلاً ، كما خرج قوم كثيرون عبر التاريخ من بلاد كثيرة . سكك الحديد ، والبواخر ، والمستشفيات والمصانع ، والمدارس ، ستكون لنا ، وسنتحدث لغتهم ، دون إحساس بالذنب ولا إحساس بالجميل . سنكون كما نحن ، قوم عاديون ، وإذا كنا أكاذيب ، فنحن أكاذيب من صنع أنفسنا .
مثل هذه الأفكار أوصلتني إلى فراشي ، وصاحبتني بعد ذلك إلى الخرطوم حيث تسلمت عملي في مصلحة المعارف .
مات مصطفى سعيد منذ عامين ولكنني ما أفتأ أقابله من حين ..
لآخر . لقد عشت خمسة وعشرون عاماً ، وأنا لم أسمع به ولم اره . ثم ، هكذا فجأة أجده في مكان لا يوجد فيه أمثاله . وإذا بمصطفى سعيد ، رغم إرادتي ، جزء من عالمي ، فكرة في ذهني ، طيف لا يريد أن يمضي في حال سبيله . وإذا إحساس بعيد بالخوف ، بأنه من الجائز ألا تكون البساطة هي كل شيء . مصطفى سعيد قال إن جدي يعرف السر . الشجرة تنمو ببساطة ، وجدك عاش وسيموت ببساطة . هكذا . لكن هب أنه كان يسخر من بساطتي ؟ في رحلة بالقطار بين الخرطوم والأبيض ، كان معي في نفس القمرة موظف متقاعد . حين تحرك القطار من كوستي كان الحديث قد وصل بنا إلى أيام دراسته . وعلمت منه أن عدداً من رؤسائي في وزارة المعارف كانوا معاصريه في المدرسة ، وبعضهم كان يزامله في نفس الفصل . ومضى الرجل يذكر أن فلاناً في وزارة الزراعة كان زميله ، والمهندس فلان كان في الفصل الذي أمامه ، وفلاناً ، التاجر الذي اغتنى أيام الحرب ، كان من أبلد خلق الله في فصلهم ، والجراح الشهير فلاناً كان أحسن جناح أيمن في المدرسة كلها أيامهم . وفجأة رأيت وجه الرجل يضيء ، وعينيه تلمعان ، وقال في صوت متحمس منفعل : ( غريبة . تصور أنني نسيت أنبغ تلميذ في فصلنا ولم يخطر على بالي منذ ترك المدرسة . الآن فقط تذكرته . نعم ، مصطفى سعيد ) .
مرة أخرى ذلك الإحساس ، بأن الأشياء العادية أمام ..
عينيك تصبح غير عادية . رأيت نافذة القمرة وبابها يلتقيان ، وخيل لي أن الضوء المنعكس على نظارة الرجل ، في لحظة لا تريد عن طرفة العين ، يتوهج توهجاً خاطفاً كأنه شمس في رابعة النهار . ولا بد أن الدنيا في تلك اللحظة بدت مختلفة بالنسبة للمأمور المتقاعد أيضاً ، إذ أن تجربة كاملة كانت خارج وعيه أصبحت فجأة في متناول اليد . حين رأيت وجهه أول مرة ، قدرت أنه في منتصف الستين . وأنظر إليه الآن وهو يستطرد في سرد ذكرياته البعيدة ، فأرى رجلاً لا يزيد يوماً واحداً عن الأربعين .
( نعم ، مصطفى سعيد كان أنبغ تلميذ في أيامنا . كنا في فصل واحد . كان يجلس في الصف الذي أمام صفنا مباشرة . ناحية اليسار . يا للغرابة ، كيف لم يخطر على بالي قبل الآن مع أنه كان معجزة في ذلك الوقت ؟ كان أشهر طالب في كلية غردون ، أشهر من أعضاء التيم لكرة القدم ، ورؤساء الداخليات ، والخطباء في الليالي الأدبية ، والكتاب في جرائد الحائط ، والممثلين الذائعي الصيت في فرق الدراما . لم يكن له نشاط من هذا القبيل إطلاقاً . كان منعزلاً ومتعالياً ، يقضي أوقات فراغه وحده ، إما في القراءة أو في المشي مسافات طويلة . كنا جميعاً داخليين تلك الأيام ، في كلية غردون حتى أبناء العاصمة المثلثة . كان نابغة في كل شيء ، لم يوجد شيء يستعصي على ذهنه العجيب . كان المدرسون يكلموننا بلهجة ويكلمونه هو بلهجة أخرى . خصوصاً مدرسو
اللغة الإنجليزية ، كانوا كأنما يلقون الدرس له وحده دون بقية التلاميذ . )
وصمت الرجل برهة ، فأحسست برغبة شديدة أن أقول إنني أعرف مصطفى سعيد ، وإن الظروف ألقت بي في طريقه ، فقص علي ، ذات ليلة مظلمة قائظة ، قصة حياته ، وإنه قضى آخر أيامه في قرية مغمورة الذكر عند منحنى النيل ، وإنه مات غرقاً ، وربما انتحاراً ، وجعلني أنا دون سائر الناس وصياً على ولديه . لكنني لم أقل شيئاً ، إنما المأمور المتقاعد هو الذي استطرد :
قطع مصطفى سعيد مرحلة التعليم في السودان قفزاً كان بالفعل كأنه يسابق الزمن . وبينما ظللنا نحن بعده في كلية غردون ، أرسل هو في بعثة إلى القاهرة وبعدها إلى لندن . كان أول سوداني يرسل في بعثة إلى الخارج . كان ابن الإنكليز المدلل . وكنا جميعاً نحسده ، ونتوقع أن يصير له شأن عظيم . نحن كنا ننطق الكلمات الإنكليزية كأنها كلمات عربية . لا نستطيع أن نسكن حرفين متتاليين . أما مصطفى سعيد فقد كان يعوج فمه ، ويمط شفتيه ، وتخرج الكلمات من فمه كما تخرج من أفواه أهلها . كان ذلك يملؤنا غيظاً وإعجاباً في الوقت نفسه . وكنا نطلق عليه ، بخليط من الإعجاب والحقد ( الإنكليزي الأسود) . وعلى أيامنا ، كانت اللغة الإنكليزية هي مفتاح المستقبل لا تقوم لأحد قائمة بدونها . كلية غردون كانت مدرسة إبتدائية . كانوا يعطونها من العلم ما يكفي فقط لملء ..
الوظائف الحكومية الصغرى أول ما تخرجت ، اشتغلت محاسباً في مركز الفاشر . وبعد جهد جهيد قبلوا أن أجلس لإمتحان الإدارة . وقضيت ثلاثين عاماً نائب مأمور . تصور . وقبل أن أحال على المعاش بعامين اثنين فقط رقيت مأموراً . كان مفتش المركز الإنكليزي إلهاً يتصرف في رقعة أكبرى من الجزر البريطانية كلها ، يسكن في قصر طويل عريض مملوء بالخدم ومحاط بالجند . وكانوا يتصرفون كالآلهة . يسخروننا نحن الموظفين الصغار أولاد البلد لجلب العوائد ، ويتذمر الناس منا ويشكون إلى المفتش الإنكليزي . وكان المفتش الإنكليزي طبعاً هو الذي يغفر ويرحم . هكذا غرسوا في قلوب الناس بغضنا ، نحن أبناء البلد ، وحبهم هم المستعمرون الدخلاء . وتأكد من كلامي هذا يا بني . ألم تستقل البلد الآن ؟ ألم نصبح أحراراً في بلادنا ؟ تأكد أنهم احتضنوا أرذال الناس . أرذال الناس هم الذين تبوأوا المراكز الضخمة أيام الإنكليز . كنا واثقين أن مصطفى سعيد سيصير له شأن يذكر . كان أبوه من العبايدة ، القبيلة التي تعيش بين مصر والسودان . إنهم الذين هربوا سلاطين باشا من أسر الخليفة عبدالله التعايشي ، ثم بعد ذلك عملوا رواداً لجيش كتشنر حين استعاد فتح السودان . ويقال أن أمه كانت رقيقاً من الجنوب . من قبائل الزاندي أو الباريا ، الله أعلم . الناس الذين ليس لهم أصل ، هم الذين تبوأوا أعلى المراتب أيام الإنكليز ) .
وكان المأمور المتقاعد يغط في نوم مريح ، حين مر القطار
على خزان سنار ، الخزان الذي بناه الإنكليز عام 1926 ، متجهاً غرباً إلى الأبيض ، على خط حديدي وحيد ، ممتد عبر الصحراء ، كأنه جسر من الحبال بين جبلين شرسين ، بينهما هوة سحيقة ليس لها قرار . مسكين مصطفى سعيد . كان مفروضاً أن يكون له شأن بمقاييس المفتشين والمآمير . ولكنه لم يجد متى قبراً يريح جسده ، في هذا القطر الممتد مليون ميل مربع . وتذكرت ما قاله أن القاضي قبل أن يصدر عليه الحكم في الأولد بيلي قال له : ( إنك يا مستر مصطفى سعيد ، رغم تفوقك العلمي ، رجل غبي . إن في تكوينك الروحي بقعة مظلمة ، لذلك فإنك قد بددت أنبل طاقة يمنحها الله للناس : طاقة الحب ) . وتذكرت أيضاً أنني حين خرجت من بيت مصطفى سعيد تلك الليلة ، كان القمر الماحق قد ارتفع مقدار قامة الرجل في الأفق الشرقي ، وأنني قلت في نفسي أن القمر مقلم الأظافر . لا أدري لماذا خيل لي أن القمر مقلم الأظافر ؟ .
في الخرطوم أيضاً ، عرض لي طيف مصطفى سعيد ، بعد محادثتي مع المأمور المتقاعد بأقل من شهر ، كأنه جن أطلق من سجنه ، سيظل بعد ذلك يوسوس في آذان البشر ، ليقول ماذا ؟ لا أدري . كنا في بيت شاب سوداني يحاضر في الجامعة ، كنا أنا وهو زملاء دراسة في انكلترا . وكان بين الحاضرين رجل إنكليزي يعمل في وزارة المالية . وصل بنا الحديث إلى موضوع الزواج المختلط . وتحول الحديث من نقاش ..
عمومي إلى كلام عن حالات محددة . ثم من هم المتزوجون من أوربيات ؟ لا . فلان ؟ لا . وفجأة .. مصطفى سعيد . قالها الشاب المحاضر في الجامعة ، وعلى وجهه إحساس الفرح ذاته الذي لمحته على وجه المأمور المتقاعد . ومضى الشاب يقول ، تحت سماء الخرطوم المرصعة بالنجوم في أوائل فصل الشتاء : ( مصطفى سعيد كان أول سوداني تزوج إنكليزية ، بل أنه كان أول سوداني تزوج أوروبية إطلاقاً . أظن أنكم لم تسمعوا به ، فقد نزح من زمن تزوج في إنكلترا وتجنس بالجنسية الإنكليزية . غريب أن أحداً هنا لا يذكره ، مع أنه قام بدور خطير في مؤامرات الإنكليز في السودان في أواخر الثلاثينات . إنه من أخلص أعوانهم . وقد استخدمته وزارة الخارجية البريطانية في سفارات مريبة في الشرق الأوسط . وكان من سكرتيري المؤتمر الذي انعقد في لندن سنة 1936 . إنه الآن مليونير ، ويعيش كاللوردات في الريف الإنكليزي ) .
( وسمعت نفسي أقول دون وعي ، بصوت مسموع : مصطفى سعيد ترك ، بعد موته ، ستة أفدنة ، وثلاثة بقرات وثوراً ، وحمارين ، وإحدى عشرة عنزاً ، وخمس نعجات ، وثلاثين نخلة ، وثلاثاً وعشرين شجرة بين سنط وطلح وحراز ، وخمساً وعشرين شجرة ليمون ومثالها برتقال ، وتسعة أرادب قمح وتسعة ذرة ، وبيتاً مكوناً من خمس غرف ، وديوان ، وغرفة واحدة من الطوب الأحمر ، مستطيلة الشكل ، ذات ..
نوافذ خضراء ، سقفها ليس مسطحاً كبقية الغرف ولكنه مثلث كظهر الثور ، وتسعماية وسبعة وثلاثين جنيهاً وثلاثة قروش وخمسة ملاليم نقداً ) .
وفي لحظة لا تزيد عن مقدار ما يشيل البرق ثم يختفي ، رأيت في عيني الشاب الجالس قبالتي شعوراً واضحاً حياً ملموساً ، بالذعر رأيته في اتساع حدق العينين ، وارتعاش الجفن وارتخاء الفك الأسفل . إذا لم يكن خائفاً فلماذا سألني هذا السؤال : ( هل أنت ابنه ؟ ) .
سألني هكذا دون أن يدري هو الآخر لماذا نطق بهذه الكلمات الثلاث ، وهو يعلم تمام العلم من أنا . إنه لم يكن زميلي في الدراسة ، لكننا كنا في إنجلترا في وقت واحد ، وقد جمعتنا مناسبات عدة وشربنا البيرة أكثر من مرة معاً ، في حانات نايتسبردج . هكذا في لحظة خارج حدود الزمان والمكان ، تبدو له الأشياء هو الآخر ، غير حقيقية . يبدو له كل شيء محتملاً . هو أيضاً قد يكون ابن مصطفى سعيد ، أو أخاه أو ابن عمه . العالم في تلك اللحظة القصيرة ، بمقدار ما يطرف جفن العين ، احتمالات لا حصر لها ، كأن آدم وحواء سقطا لتوهما من الجنة .
كل تلك الاحتمالات استقرت على حال واحد حين ضحكت وعاد العالم كما كان ، أشخاصاً ذوي وجوه معروفة وأسماء معروفة ومهن معروفة ، تحت سماء الخرطوم المرصعة بالنجوم أوائل فصل الشتاء . ضحك هو الآخر وقال : ( يا لي من ..
مجنون ! طبعاً أنت لست إبن مصطفى سعيد ولا قريبه وأنت لم تسمع به من قبل في حياتك ، إنني نسيت أنكم معشر الشعراء ، لكم سرحات وشطحات ) .
وفكرت في شيء من المرارة ، أنني في زعم الناس شاعر سواء أردت أو لم أرد ، لأنني قضيت ثلاثة أعوام أنقب في حياة شاعر مغمور من شعراء الإنكليز ، وعدت لأدرس الأدب الجاهلي في المدارس الثانوية قبل أن يرقوني مفتشاً للتعليم الإبتدائي .
وهنا تدخل الرجل الإنكليزي وقال أنه لا يدري صحة ما قيل عن الدور الذي لعبه مصطفى سعيد في مؤامرات السياسة الإنكليزية في السودان . الذي يعلله أن مصطفى سعيد لم يكن إقتصادياً يركن إليه : ( إنني قرأت بعض ما كتب عما أسماه اقتصاد الإستعمار ) . الصفة الغالبة على كتاباته أن إحصائياته لم يكن يوثق بها . كان ينتمي إلى مدرسة الإقتصاديين الفابيانيين الذين يختفون وراء ستار التعميم هروباً من مواجهة الحقائق المدعمة بالأرقام . العدالة ، المساواة ، الإشتراكية .. مجرد كلمات . رجل الإقتصاد ليس كاتباً كتشارلز دكنز ، ولا سياسياً كروزفلت . إنه أداة ، آلة ، لا قيمة لها بدون الحقائق والأرقام والإحصائيات . أقصى ما يستطيع أن يفعله هو أن يحدد العلاقة بين حقيقة وأخرى ، بين رقم وآخر . أما أن تجعل الأرقام تقول شيئاً دون آخر ، فذلك شأن الحكام ورجال السياسة . الدنيا ليست في حاجة إلى مزيد من رجال
السياسة ، لا . مصطفى سعيد هذا لم يكن اقتصادية يوثق به ) . وسألته إن كان قد قابل مصطفى سعيد .
( لا . إنني لم أقابله . كان قد ترك أكسفورد قبلي بمدة لكنني سمعت نتفاً هنا وهناك . يظهر أنه كان زير نساء . خلق لنفسه أسطورة من نوع ما . الرجل الأسود الوسيم ، المدلل في الأوساط البوهيمية . كان كما يبدو واجهة يعرضها أفراد الطبقة الارستقراطية الذين كانوا في العشريان وأوائل الثلاثينات يتظاهرون بالتحرر . ويقال أنه كان صديقاً للورد فلان ولورد علان . وكان أيضاً من الأثيرين عند اليسار الإنكليزي . ذلك من سوء حظه ، لأنه يقال أنه كان ذكياً . لا يوجد على وجه الأرض أسوأ من الاقتصاديين اليساريين ، حتى منصبه الأكاديمي لا أدري تماماً ماذا كان يخيل إلي أنه حصل عليه لأسباب من هذا النوع . كأنهم أرادوا أن يقولوا : انظروا كم نحن متسامحون ومتحررون ! هذا الرجل الأفريقي كأنه واحد منا ! أنه تزوج ابنتنا ويعمل معنا على قدم المساواة ، هذا النوع من الأوروبيين لا يقل شراً ، لو تدرون ، عن المجانين الذين يؤمنون بتفوق الرجل الأبيض في جنوبي أفريقيا وفي الولايات الجنوبية في الولايات المتحدة . نفس الطاقة العاطفية المتطرفة ، تتجه إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار ، لو أنه فقط تفرغ للعلم لوجد أصدقاء حقيقيين من جميع الأجناس ، ولكنتم قد سمعتم به هنا . كان قطعاً سيعود وينفع بعلمه هذا البلد الذي تتحكم فيه الخرافات . ها أنتم الآن تؤمنون بخرافات ..
من نوع جديد . خرافة التصنيع ، خرافة التأميم الوحدة العربية خرافة الوحدة الأفريقية . إنكم كالأطفال تؤمنون أن في جوف الأرض كنزاً ستحصلون عليه بمعجزة ، وستحلون جميع مشاكلكم ، وتقيمون فردوساً . أوهام . أحلام يقظة . عن طريق الحقائق والأرقام والإحصائيات ، يمكن أن تقبلوا واقعكم وتتعايشوا معه وتحاولوا التغيير في حدود طاقاتكم . وقد كان بوسع رجل مثل مصطفى سعيد أن يلعب دوراً لا بأس به في هذا السبيل ، ولو أنه لم يتحول إلى مهرج بين يدي حفنة من الإنكليز المعتوهين ) .
وبينما انبرى منصور يفند آراء رتشارد ، أخلدت أنا إلى أفكاري ما جدوى النقاش ؟ هذا الرجل رتشارد هو الآخر متعصب . كل أحد متعصب بطريقة أو بأخرى . لعلنا نؤمن بالخرافات التي ذكرها ، ولكنه يؤمن بخرافة جديدة ، خرافة عصرية ، هي خرافة الإحصائيات . ما دمنا سنؤمن بإله ، فليكن إلهاً قادر على كل شيء . أما الإحصائيات الرجل الأبيض ، لمجرد أنه حكمنا في حقبة من تاريخنا ، سيظل أمداً طويلاً يحس نحونا بإحساس الإحتقار الذي يحسه القوي تجاه الضعيف ) . مصطفى سعيد قال لهم : ( إنني جئتكم غازياً . عبارة ميلودرامية ولا شك . لكن مجيئهم ، هم أيضاً ، لم يكن مأساة كما نصور نحن ، ولا نعمة كما يصورون هم . كان عملاً ميلودرامياً سيتحول مع مرور الزمن إلى خرافة عظمى وسمعت منصور يقول لرتشارد : ( لقد نقلتم إلينا مرض ..
اقتصادكم الرأسمالي . ماذا أعطيتمونا غير حفنة من الشركات الاستعمارية نزفت دماءنا وما تزال ؟ ) . وقال له رتشارد : ( كل هذا يدل على أنكم لا تستطيعون الحياة بدوننا . كنت تشكون من الاستعمار ، ولما خرجنا خلقتم أسطورة الاستعمار المستتر . يبدو أن وجودنا ، بشكل واضح أو مستتر ، ضروري لكم كالماء والهواء ) . ولم يكونا غاضبين . كانا يقولان كلاماً مثل هذا ويضحكان على مرمى حجر من خط الاستواء ، تفصل بينهما هوة تاريخية ليس لها قرار .
لكن أرجو ألا يتبادر إلى أذهانكم ، يا سادتي ، أن مصطفى سعيد أصبح هوساً يلازمني في حلي وترحالي . كانت أحياناً تمر أشهر دون أن يخطر على بالي إنه مات على أي حال ، غرقاً ، أو إنتحاراً ، الله وحده يعلم . آلاف الناس يموتون كل يوم . ولو وقفنا نتمعن لماذا مات كل منهم ، وكيف مات ماذا يحدث لنا نحن الأحياء ؟ الدنيا تسير ، باختيارنا أو رغم أنوفنا . وأنا كملايين البشر ، أسير ، أتحرك بحكم العادة في الغالب ، في قافلة طويلة ، تصعد وتنزل ، تحط وترحل . والحياة في هذه القافلة ليست كلها شراً . أنتم ولا شك تدركون ذلك . قد يكون السير شاقاً بالنهار ، البوادي تترامى أمامنا كبحور ليس لها ساحل . نتصبب عراً . وتجف حلوقنا من الظمأ . ونبلغ الحد الذي نظن أن ليس بعده متقدم . ثم تغيب الشمس . ويبرد الهواء . وتتألق ملايين النجوم في السماء . نطعم ونشرب حينئذ ، ويغني مغني الركب . بعضنا يصلي جماعة وراء الشيخ ، وبعضنا يتحلق حلقات يرقصون ويغنون ..
ويصفقون . وفوقنا سماء دافئة رخيمة . وأحياناً نسري بالليل ما طاب لنا السري ، وحين يبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود نقول : ( عند انبلاج الصبح يحمد القوم السري ) . وإذا كان السراب أحياناً يخدعنا ، وإذا كانت رسومنا المحمومة بفعل الحر والعطش تغرر أحياناً بأفكار لا أساس لها من الصحة فلا جرم . أشباح الليل تتبخر مع الفجر ، وحمى النهار تبرد مع نسيم الليل . هل ثمة وسيلة أخرى غير هذه ؟ هكذا كنت أقضي شهرين كل سنة في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل . النهر بعد أن كان يجري من الجنوب إلى الشمال ، ينحني فجأة في زاوية تكاد تكون مستقيمة ، ويجري من الغرب إلى الشرق . المجرى هنا متسع وعميق ، ووسط الماء جزر صغيرة مخضرة ، تحوم عليها طيور بيضاء . وعلى الشاطئين غابات كثيفة من النخل ، وسواقي دائرة ، ومكنة ماء من حين لآخر . الرجال صدورهم عارية ، يلبسون سراويل طويلة ، يقطعون أو يزرعون حين تمر بهم الباخرة كقلعة عائمة وسط النيل يرفعون قاماتهم ويلتفتون إليها برهة ثم يعودون إلى ما كانوا فيه . إنها تمر على هذا المكان وقت الضحى ، مرة في الأسبوع ، وما تزال في ظلال النخل المنعكسة على الماء بقية تنكسر حين يهزها الموج الذي تحدثه محركات الباخرة .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wadbashir.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 795
تاريخ التسجيل : 30/03/2012
العمر : 68
الموقع : wadbashir.2morpg.Com

موسم الهجرة الي الشمال 2 Empty
مُساهمةموضوع: رد: موسم الهجرة الي الشمال 2   موسم الهجرة الي الشمال 2 Emptyالإثنين نوفمبر 02, 2015 4:53 pm

وتنطلق صفارة مبحوحة ، سيسمعها أهلى ولا شك في دورهم وهم يشربون قهوة الضحى . من بعيد تبدو المحطة . رصيف أبيض عليه طابور من شجر الجميز . وتلمح علي الشاطئين حركة ..
واضحة . بعض الناس على الحمير وبعضهم على أقدام ، وقوارب ومراكب شراعية تتحرك من الشاطئ المقابل للمحطة . تدور الباخرة حول نفسها ، لكي لا تكون المحركات في مجرى التيار ، ويكون في استقبالها جمهور متوسط من الرجال والنساء . ذلك أبي وأولئك أعمامي وأولاد أعمامي وقد ربطوا حميرة في شجر الجميز . لا يفصل ضباب بيني وبينهم هذه المرة ، فأنا قادم من الخرطوم ، فقط ، بعد غيبة لم تدم أكثر من سبعة أشهر . إنني أراهم بعين واقعية . جلابيبهم نظيفة ولكنها غير مكوية ، وعمائمهم أكثر بياضاً من جلابيبهم ، شواربهم تتفاوت طولاً وقصراً ، سواداً وبياضاً . بعضهم له لحى ، والذين ليست لهم لحى أهملوا حلاقتها . بين حميرهم حمارة سوداء لم أرها من قبل . ينظرون إلى الباخرة دون إكتراث إذ تلقي مراسيها ويزدحم الناس عند مدخلها . إنهم ينتظرونني في الخارج ، لا يهرولون لملاقاتي . ويصافحونني ويصافحون زوجتي على عجل ، ولكنهم يمطرون الطفلة قبلاً ، يتناوبون حملها على أيديهم ، ريثما تحملنا الحمير إلى الحي . هذا حالي منذ كنت تلميذاً في المدرسة ، لم أنقطع إلا في غيبتي الطويلة تلك سبق أن حدثتكم عنها . وفي الطريق إلى الحي أسألهم عن الحمارة السوداء فيقول أبي : ( إعرابي غش عمك وأخذ منه حمارته البيضاء التي تعرفها وفوقها خمسة جنيهات أيضاً ) . ولا أدري أي أعمامي غشه الإعرابي ، حتى أسمع صوت عمي عبدالكريم يقول : ( علي الطلاق هذه أجمل حمارة في البلد ..
كلها . هذه جواد وليست حمارة . إذا شئت وجدت من يعطيني فيها ثلاثين جنيهاً ) . ويضحك عمي عبدالرحمن ويقول : ( إذا كانت جواداً فهي جواد عاقر . لا خير في حمارة لا تلد ) . وأسألهم عن محصول التمر هذا العام وأنا أعلم إجابتهم سلفاً : ( لا خير فيه ) . يقولون ذلك بصوت واحد وكل سنة الإجابة نفساه ، وأنا أدرك أن الأمر خلاف ما يزعمون . ونمر ببناء من الطوب الأحمر على ضفة النيل في منتصف تمامه ، وأسألهم عنه ، فيقول عمي عبدالمنان ( شفخانة لهم حول لا يستطيعون بناءها . حكومة كلام فارغ ) . وأقول له إنني كنت هنا منذ سبعة أشهر فقط ، ولم يكونوا قد بدأوا بناءها بعد . لكن هذا لا يثني عمي عبدالمنان ، فيقول : ( كل الذي يفلحون فيه يجيئون إلينا مرة كل عامين أو ثلاثة بجماهيرهم ولواريهم ولافتاتهم .. يعيش فلان ويسقط علان . كنا مرتاحين أيام الإنكليز من هذه الدوشة ) . وبالفعل يمر بنا جمع من الناس في لوري قديم وهم يهتفون : ( عاش الحزب الوطني الديمقراطي الإشتراكي ) . هل هؤلاء الناس يطلق عليهم ( الفلاحون ) في الكتب ؟ لو قلت لجدي أن الثورات تصنع بإسمه ، والحكومات تقوم وتقعد من أجله ، لضحك . الفكرة تبدو شاذة فعلاً ، كما أن حياة مصطفى سعيد وموته في مكان مثل هذا يبدو شيئاً صعباً تصديقه . مصطفى سعيد كان يحضر الصلوات في المسجد بانتظام . لماذا كان يبالغ في تمثيل ذلك الدور المضحك ؟ هل جاء إلى هذه القرية النائية يطلب راحة البال ؟ لعل الإجابة في تلك الغرفة المستطيلة ذات النوافذ الخضراء . ماذا أتوقع ؟ هل أتوقع أن أجده جالساً على كرسي وحده في الظلام ؟ أم أتوقع أن أجده معلقاً من رقبته بحبل يتدلى من السقف ؟ والرسالة التي تركها في ظرف مختوم بالشمع الأحمر ، متى كتبها ؟

( إنني أترك زوجتي وولدي وكل مالي من متاع الدنيا في ذمتك ، وأنا أعلم أنك ستكون أميناً على كل شيء . زوجتي تعلم بكل مالي ، وهي حرة التصرف . إني واثق بحكمتها . ولكنني أطلب منك أن تؤدي هذه الخدمة لرجل لم يسعد بالتعرف إليك كما ينبغي أن تشمل أهل بيتي برعايتك وأن تكون عوناً ومشيراً ونصيحاً لولدي ، وأن تجنبهما ما استطعت مشقة السفر . جنبهما مشقة السفر . وساعدهما أن ينشآ نشأة عادية ويعملا عملاً مفيداً . وأنا أترك لك مفتاح غرفتي الخاصة ولعلك تجد فيها ما تبحث عنه . أنا أعلم أنك تعاني من رغبة استطلاع مفرطة بشأني ، الأمر الذي أجد له مبرراً . فحياتي مهما كان من أمرها ليس فيها عظة أو عبرة لأحد . ولولا إدراكي أن معرفة أهل القرية بماضي كان سيعوقني عن مواصلة الحياة التي اخترتها لنفسي بينهم ، لما كان ثمة مبرر للكتمان . وأنت في حل من العهد الذي قطعته على نفسك تلك الليلة . فتحدث ما شئت . وإذا لم تستطع أن تقاوم رغبة الاستطلاع في نفسك ، فستجد في تلك الغرفة ، التي لم يدخلها غيري من قبل ، قصاصات ورق وشذوراً متفرقة ومحاولات لكتابة مذكرات وغير ذلك . أرجو على أي حال أن تساعدك على تزجية الساعات التي لا تجد وسيلة أفضل لقضائها . وأنا أترك لك تقدير الوقت المناسب لتعطي ولدي مفتاح الغرفة وتساعدهما على إدراك حقيقة أمري . إنه يهمني أن يعلما أي نوع من الناس كان أبوهما إذا كان ذلك ممكناً أصلاً وليس هدفي أن يحسنا بي الظن ، حسن الظن هو آخر ما أرمي إليه ولكن لعل ذلك يساعدهما على معرفة حقيقتهما ، ولكن في وقت لا تكون المعرفة فيه خطراً . إذا نشآ مشبعين بهواء هذا البلد وروائحه وألوانه وتاريخه ووجوه أهله وذكريات فيضاناته وحصاداته وزراعاته فإن حياتي ستحتل مكانها الصحيح كشيء له معنى إلى جانب معان كثيرة أخرى أعمق مدلولاً . لا أدري كيف يفكران في حينئذ . قد يحسان نحوي بالرثاء ، وقد يحولانني بخيالهما إلى بطل . هذا ليس مهماً . المهم أن حياتي لن تجيء من وراء المجهول كروح شريرة تلحق بهما الضرر . وكم كنت أتمنى أن أظل معهما ، أراقبهما يكبران أمام عيني ويكونان على الأقل مبرراً لوجودي . إنني لا أدري أي العملين أكثر أنانية ، بقائي أم ذهابي . ومهما يكن فإنه لا حيلة لي ، ولعلك تدرك قصدي إذا عدت بذاكرتك إلى ما قلته لك تلك الليلة . لا جودى من خداع النفس . ذلك النداء البعيد لا يزال يتردد في أذني . وقد ظننت أن حياتي وزواجي هنا سيسكتانه . ولكن لعلي خلقت هكذا ، أو أن مصيري هكذا ، مهما يكن معنى ذلك ، لا أدري . إنني أعرف بعقلي ما يجب فعله ، الأمر الذي جربته في هذه القرية ، مع هؤلاء القوم السعداء . ولكن أشياء مهمة في روحي وفي دمي تدفعني إلى مناطق بعيدة تتراءى لي ولا يمكن تجاهلها . واحسرتي إذا نشأ ولداي ، أحدهما أو كلاهما ، وفيهما جرثومة هذه العدوى ، عدوى الرحيل . إنني أحملك الأمانة لأنني لمحت فيك صورة عن جدك . لا أدري متى أذهب يا صديقي ولكنني أحس أن ساعة الرحيل قد أزفت ، فوداعاً ) .
إذا كان مصطفى سعيد قد اختار النهاية ، فإنه يكون قد قام بأعظم عمل ميلودرامي في رواية حياته . وإذا كان الإحتمال الآخر هو الصحيح ، فإن الطبيعة تكون قد منت عليه بالنهاية التي كان يرديها لنفسه . تصور عز الصيف في شهر يوليو العتيد . النهر اللامبالي فاض كما لم يفض منذ ثلاثين عاماً . الظلام يصهر عناصر الطبيعة جميعاً في عنصر واحد محايد ، أقدم من النهر ذاته وأقل منه اكتراثاً هكذا يجب أن تكون نهاية هذه البطل . إنما هل هي فعلاً النهاية التي كان يبحث عنها لعله كان يرديها في الشمال ، الشمال الأقصى ، في ليلة جليدية عاصفة ، تحت سماء لا نجوم لها ، بين قوم لا يعنيهم أمره . نهاية الغزاة الفاتحين . ولكنهم ، كما قالوا ، تآمروا ضده ، المحلفون والشهود والمحامون والقضاة ليحرموه منها . هكذا قال : ( رأى المحلفون أمامهم رجلاً لا يريد أن يدافع عن نفسه . رجلاً فقد الرغبة في الحياة . إنني ترددت في تلك الليلة حين شهقت جين في أذني . ( تعال معي ، تعال ) . كانت حياتي قد اكتملت ليلتها ، ولم يكن ثمة مبرر للبقاء . ولكنني ترددت ، وخفت في اللحظة الحاسمة . وكنت أرجو أن تمنحني المحكمة ما عجزت أنا عن تحقيقه . وكأنما أدركوا قصدي ، فصمموا ألا يعطوني آخر أمنية لي عندهم . حتى الكولونيل همند الذي كنت أتوسم فيه الخير ، ذكر زيارتي لهم في ليفربول ، وأنني تركت في نفسه أثراً حسناً . قال إنه يعتبر نفسه إنساناً متحرراً ليس عنده تحيز ضد أحد . ولكنه رجل واقعي ، وقد كان يرى أن زواجاً مثل ذلك لن ينجح . وقال أيضاً أن ابنته وقعت تحت تأثير الفلسفات الشرقية في أكسفورد ، وكانت مترددة بين اعتناق البوذية أو الإسلام . وهو لا يستطيع أن يجزم إذا كان انتحارها بسبب أزمة روحية انتابتها ، أو لأنها اكتشفت خدام مستر مصطفى سعيد لها . كانت آن ابنته الوحيدة ، وقد عرفتها وهي دون العشرين ، فخدعتها وغررت بها وقلت لها زواجاً يكون جسراً بين الشمال والجنوب ، وحولت جذوة التطلع في عينيها الخضراوين إلى رماد . ومع ذلك يقف أبوها وسط المحكمة ويقول بصوت هادئ انه لا يستطيع أن يجزم . هذا هو العدل وأصول اللعبة ، كقوانين الحرب والحياد في الحرب . هذه هي القوة التي تلبس قناع الرحمة ، المهم أنهم حكموا عليه بالسجن سبع سنوات فقط ، ورفضوا أن يتخذوا القرار الذي كان عليه هو أن يتخذه بمحض إرادته . ويخرج من السجن ، ويتشرد في أصقاع الأرض ، من باريس إلى كوبنهاجن إلى دلهي إلى ..
بانكوك ، وهو يحاول التسويف . وتكون النهاية بعد ذلك في قرية مغمورة الذكر على النيل ، ولا يستطيع المرء أن يجزم هل كانت اعتباطاً أو أنه أسدل الستار بمحض إرادته . إنما أنا لم أجيء إلى هنا لأفكر في مصطفى سعيد ، فها هي ذي بيوت القرية المتلاصقة من الطين والطوب الأحمر الأخضر تشرئب بأعناقها أمامنا ، وحميرنا تحث السير لأنها شمت بخياشيمها رائحة البرسيم والعلف والماء . هذه البيوت على حافة الصحراء ، كأن قوماً في عهد قديم أرادوا أن يستقروا ثم نفضوا أيديهم ورحلوا على عجل . هنا تبدأ أشياء . وتنتهي أشياء . ومنطقة صغيرة من هواء بارد رطب يأتي من ناحية النهر ، وسط هجير الصحراء ، كأنه نصف حقيقة وسط عالم مليء بالأكاذيب . أصوات الناس والطيور والحيوانات تتناهى ضعيفة إلى الأذن كأنها وساوس ، وطقطقة مكنة الماء المنتظم تقوي الإحساس بالمستحيل . والنهر ، النهر الذي لولاه لم تكن بداية ولا نهاية ، يجري نحو الشمال ، لا يلوي على شيء ، قد يعترضه جبل فيتجه شرقاً ، وقد تصادفه وهدة من الأرض فيتجه غرباً ، ولكنه أن عاجلاً أو آجلاً يستقر في مسيرة الحتمي ناحية البحر في الشمال .
وقفت عند باب دار جدي في الصباح باب ضخم عتيق من خشب الحراز ، لا شك أنه استوعب حطب شجرة كاملة ، صنعه ود البصير ، مهندس القرية الذي لم يتعلم النجارة في مدرسة ، كما كان يصنع عجلات السواقي وحلقاتها ، وأيضاً يجبر العظام ، ويكوي ويحجم ، ويتخصص كذلك في نقد الحمير ، قل أن يشتري أحد من أهل البلد حمارة دون مشورته . ود البصير لا يزال حياً إلى يومنا هذا ، ولكنه لم يعد يصنع مثل باب بيت جدي ، بعد أن أكتشفت الأجيال اللاحقة من أهل البلد أبواب خشب الزان وأبواب الحديد ، يجلبونها من أم درمان . والسواقي أيضاً . بار سوقها حين جاءت مكنات الماء . وسمعتهم يقهقهون ، فميزت ضحكة جدي النحيلة الخبيثة المنطلقة حين يكون على سجيته ، وضحكة ود الريس التي تخرج من كرش مملوء بالطعام دائماً ، وضحكة بكري التي تأخذ لونها وطعمها من المجلس الذي يكون موجوداً فيه ، وضحكة بنت مجذوب القوية المسترجلة . تخيلت جدي جالساً
على فروة صلاته وفي يده مسبحته من خشب الصندل ، تدور في حركة دائبة كقواريس الساقية . وبنت مجذوب وود الريس وبكري ، أصدقاؤه القدامى ، يجلسون على تلك الأسِرَّة الوطيئة ، التي لا تعلو أرجلها عن الأرض أكثر من شبرين . ارتفاع السرير عن الأرض ، في زعم جدي ، من الغرور ، وقصره من التواضع .. بنت مجذوب متكئة على كوعها ، وفي اليد الأخرى سيجارة . ود الريس كأنه يخرج الحكايات الخبيثة من أطراف شاربيه . وبكري يجلس وحسب . هذه الدار الكبيرة ليست من الحجر ولا الطوب الأحمر ، ولكنها من الطين نفسه الذي يزرع فيه القمح ، قائمة على أطراف الحقل تماماً ، تكون إمتداداً له . وهذا واضح من شجيرات الطلح والسنط النامية في فناء الدار والنباتات التي نمت في الحيطان نفسها حيث تسرب إليها الماء من الأرض المزروعة . وهي دار فوضى قائمة دون نظام ، اكتسبت هيئتها هذه على مدى أعوام طويلة : غرف كثيرة مختلفة الأحجام ، بنيت بعضها لصق بعض في أوقات مختلفة ، أما حسب الحاجة إليها أو لأن جدي توفر له شيء من المال لم يجد وسيلة أخرى ينفقه فيها . غرف تؤدي بعضها إلى بعض ، بعضها لها أبواب وطيئة لابد أن تنحني كي تدخلها وبعضها ليست لها أبواب إطلاقاً ، بعضها لها نوافذ كثيرة ، وبعضها ليست لها نوافذ . حيطانها ملساء مطلية بمادة هي خليط من الرمل الخشن والطين الأسود وزبالة البهائم ،
وكذلك السطوح ، والأسقف من جذع النخيل وخشب السنط وجريد النخيل . دار متاهة ، باردة في الصيف ، دافئة في الشتاء . إذا نظرت إليها من الخارج ، دون عطف ، أحسست بها كياناً هشاً لن يقوى على البقاء ، ولكنها تغالب الزمن بشيء كالمعجزة .
ودخلت من باب الحوش ، ونظرت على اليسار واليمين في الفناء الواسع . هنالك تمر نشر على بروش ليجف . وهنالك بصل وشطة . وهنالك أكياس قمح وفول وبعضها خيطت أفواهها وبعضها مفتوح . وفي ركن عنز تأكل شعيراً وترضع مولوداً . هذه الدار مصيرها مرتبط بمصير الحقل ، إذا اخضر الحق اخضرت ، وحين يجتاح القحط الحقول يجتاحها هي أيضاً . وأشم تلك الرائحة التي يمتاز بها بيت جدي ، خليط من روائح متناثرة ، رائحة البصل والشطة والتمر والقمح والفول واللوبية والحلبة ، أضف إليها رائحة البخور الذي يعبق دائماً في مجمر الفخار الكبير . رائحة تذكرني بتقشف جدي في العيش ، وترفه في لوازم صلاته . الفروة التي يصلي عليها ، وحين يشتد البرد يستعملها غطاء ، عبارة عن جلود ثلاثة نمور مخيطة في جلد واسع . وإبريق الصلاة من النحاس عليه تصاوير ونقوش ، وله طشت من نحاس أيضاُ . وهو يفتخر خاصة بمسبحته لأنها من خشب الصندل ، ويداعب حباتها ، ويمسح بها وجهه ويستنشق رائحتها . وكان إذا غضب من أحد أحفاده ، ضربه بها على رأسه ، يقول أن ذلك يطرد ..
الشيطان . وهذه الأشياء جميعاً ، مثل غرف داره ، والنخل في حقله ، لها تاريخ قصه علي جدي مراراً وتكراراً ، في كل مرة يحذف شيئاً ويضيف شيئاُ .
تمهلت عند باب الغرفة وأنا أستمرئ ذلك الإحساس العذب الذي يسبق لحظة لقائي مع جدي كلما عدت من السفر . إحساس صاف بالعجب من أن ذلك الكيان العتيق ما يزال موجوداً أصلاً على ظاهر الأرض . وحين أعانقه أستنشق رائحته الفريدة التي هي خليط من رائحة الضريح الكبير في المقبرة ورائحة الطفل الرضيع . وذلك الصوت النحيل المطمئن ، يقوم جسراً بيني وبين الساعة القلقة التي لم تتشكل بعد ، الساعات التي استوعبت أحداثها ومضت ، وأصبحت لبنات في صرح له مدلولات وأبعاد . نحن بمقاييس العالم الصناعي الأوروبي ، فلاحون فقراء ، ولكنني حين أعانق جدي أحس بالغنى ، كأني نغمة من دقات قلب الكون نفسه . إنه ليس شجرة سنديان شامخة وارفة الفروع في أرض منت عليها الطبيعة بالماء والخصب ، ولكنه كشجيرات السيال في صحاري السودان ، سميكة اللحى حادة الأشواك ، تقهر الموت لأنها لا تسرف في الحياة . وهذا وجه العجب . إنه عاش أصلاً رغم الطاعون والمجاعات والحروب وفساد الحكام . وها هو ذا الآن يقترب من عامه المائة ، أسنانه جميعاً في فمه ، عيناه صغيرتان باهتتان تحسب أنهما لا تريان ولكنه ينظر بهما في حلكة الليل ، جسمه الضئيل منكمش على ذاته ،
عظام وعروق وجلد وعضلات ، وليست فيه قطعة واحدة من الشحم ، يقفز فوق الحمال نشيطاً ، ويمشي في غبش الفجر من بيته إلى الجامع .
مسح جدي بطرف ثوبه الدمع الذي سال على وجهه من شدة الضحك ، وبعد أن أمهلوني ريثما أستقر في مجلسي معهم ، قال جدي : ( والله حكايتك حكاية يا ود الريس ) . وكان هذا إيذاناً لود الريس بأن يستمر في القصة التي قطعها دخولي عليهم . ( وبعد ، يا حاج أحمد ، أركبت البنت أمامي على الحمار وهي تفلفص وتتلوى وبالقوة جردتها من جميع ثيابها حتى أصبحت عارية كما ولدتها أمها ، كانت فرخة عديلة من جواري بحري بلغت توها النهد يا حاج أحمد كأنه طبنجة والكفل إذا طوقته بذراعيك لا تصل حده . وكانت مدهنة ومدلكة جلدها يلمع في ضوء القمر وعطرها يدوخ العقل . ونزلت بها إلى منطقة رملية وسط الذرة . ولما قمت عليها سمعت حركة في الذرة وصوتاً يقول : من هناك ؟ يا حاج أحمد ، جنون الشباب ليس مثله جنون . فكرت بسرعة . وعملت أنني عفريت . وأخذت أصرخ بأصوات شيطانية وأنثر الرمل وابرطع ، فذعر الرجل وهرب . إنما النكتة أن عمي عيسى كان قد تقفى أثري منذ خطفت الجارية من بيت العرس حتى وصلنا على بقعة الرمل . ولما رأي أنني عملت عفريت وقف يتفرج . وثاني يوم في الصباح الباكر ذهب إلى والدي رحمة الله عليه وقص عليه القصة كلها ، وقال له : ابنك هذا شيطان رجيم ، وإذا لم نجد له زوجة في هذا النهار أفسد البلد وسبب لنا فضائح لا أول لها ولا آخر . وفعلاً عقدوا لي في نفس اليوم على بنت عمي رجب . الله يرحمها ، ماتت في أول ولادة ) .
وقالت له بنت مجذوب وهي تضحك بصوتها الرجالي المبحوح من كثرة التدخين : ( ومن يومها وأنت تركب وتنزل كأنك فحل الحمير ) .
فقال لها ود الريس : ( هل أحد يعرف حلاوة هذا الشيء أكثر منك يا بنت مجذوب ؟ انك دفنت ثمانية أزواج ، والآن وانت عجوز كركبة لو وجدته لما قلت لا ) . وقال جدي : ( سمعنا أن غنج بنت مجذوب شيء لا يتصوره العقل ) .
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wadbashir.yoo7.com
 
موسم الهجرة الي الشمال 2
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» موسم الهجرة الي الشمال 5
» موسم الهجرة الي الشمال 4
» موسم الهجرة الي الشمال 1
» موسم الهجرة الي الشمال 3
» رابط منتدي ودبشير ارض الشمال

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ودبشير ارض الشمال :: القسم الثاني اجتماعي :: المكتبة العامة-
انتقل الى: