آل عمران أخلصوا فاستحقوا الاصطفاء

نخبة مختارة من البشر

آل عمران عائلة الأنبياء، تتكون من عمران، وزوجته المرأة الصالحة، لم يذكر القرآن الكريم اسمها، رغم أنها سبب
خير العائلة وصلاحها، أخرج الله من ذريتها بنتين، الأولى تزوجت سيدنا زكريا عليه السلام، والثانية والتي وُلدت
بعد فترة كبيرة هي السيدة مريم البتول، خلد ذكرهم إلى يوم الدين، سورة في القرآن باسمهم.

وردت القصة في قول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *ذُرِّيَّةً
بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ *إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ *فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي
سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ *فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا
زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)، «آل عمران: الآيات 33 - 37».

يقول المفسرون، لقد اصطفى الله سبحانه وتعالى هؤلاء الأربعة على العالمين آدم، ونوح وآل إبراهيم وآل عمران،
وآل عمران هم عمران بن ماتان أبو مريم، وزوجه حنة وأختها زوجة زكريا، وكذا عيسى بن مريم
ويحيى بن زكريا عليهم الصلاة والسلام، وهم مضرب مثل في الثبات على الأمر الحق.

نذر زوجة عمران

العائلة كانت تعيش عند المسجد الأقصى، والرومان مسيطرون على فلسطين، وبنو إسرائيل واليهود معرضون
عن الله، ويقص سبحانه قصة «حنة بنت فاقود» زوجة عمران، امرأة عجوز، لا تلد، وكانوا أهل بيت من الله
بمكان، كانت ذات يوم تحت ظل شجرة، إذ رأت طائراً يطعم فرخه فحنت إلى الولد وتمنته، وقالت اللهم إن علي
لك نذراً إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس فيكون من سدنته، أن تجعل ولدها محرراً، عتيقاً
خالصاً لله تعالى، وقفا للخدمة في بيت المقدس، مفرغا لعبادة الله تعالى، ثم هلك عمران وهي حامل، وكان الشائع
أيامها هذا النوع من النذور فيجعل الآباء أبناءهم لخدمة بيت المقدس وعبادة الله، ودعت حنة ربها أن يتقبل
منها نذرها، وظهرت المفاجأة، تحس بجنين في أحشائها قالت لئن نجاني الله ووضعت ما في بطني غلاما
لجعلته محرراً لعبادتك.

ولكن شاء الله سبحانه أن تضع أنثى ومن الصعوبة أن تطبق نذرها، حيث إن للأنثى ظروفها المانعة من تحقيق
هذا النذر الذي يستوجب البقاء في بيت المقدس والخدمة الدائمة والعبادة المستمرة وهي لا تناسب وضعية المرأة،
وأن الأنثى لا تصلح للخدمة، يصيبها من الحيض والأذى، ولا تصلح لمخالطة الرجال.

لقد كان المولود بنتا، بعد كل النوايا والنذور، وبعد انتظار عشرين سنة، وهي تتمنى أن يكون ولدا، بدأت المرأة
تحس بشيء من الإحباط، رزقها الله ببنت فتحسرت لذلك لأنها تمنت ذكراً لتفي بنذرها، سمتها مريم،
وأعاذتها بالله من شر الشيطان الرجيم، فتقبل الله دعاءها، قال ابن عباس، إنما قالت هذا لأنه لم يكن يقبل في النذر
إلا الذكور، فقبل الله مريم.

نشأة مريم

وقوله سبحانه: (...وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ ...)، «سورة آل عمران: الآية 36»، إعلام من الله تعالى لنا على طريق
التثبيت، فلما رأته أنثى لا تصلح وأنها عورة اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدته فيها،عندما
دعت، ربنا تقبل مني أن يكون ولداً، ورغم أن الله رزقها بنتا فقد تقبل من زوجة عمران نذرها، لأنها مخلصة
ونيتها خالصة، ربتها حتى ترعرعت وحينئذ أرسلتها للخدمة في بيت المقدس، تنفيذاً للنذر، وكان الإمام زكريا
وهو زوج ابنتها الكبرى، أي أخت مريم، وبدأ بجمع الأئمة والذين يقيمون على خدمة المسجد من بني إسرائيل،
بدأوا يتنازعون، كل واحد منهم يريد أن يكفلها واختصموا، كل واحد يأتي بالقلم الذي يكتب به التوراة ويرميه في
الماء، وزكريا معهم، جرت كلها مع الماء وبقي واحد مرفوعا، يسير عكس التيار، هو قلم زكريا، فكفلها وبدأت
مريم تنشأ في رعاية هذا النبي الكريم، الذي اختاره الله لتربيتها وكفالتها، فكانت تعبد الله في محراب المسجد،
في غرفة صغيرة في أعلى البيت المقدس، عاشت مريم منقطعة عن العالم، تمضي وقتها في المحراب تصلي وتعبد لله.

وحينما يحضر لها زكريا الطعام يجد عندها رزقاً ومنه فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء،
فاستفسر عن الأمر فأجابته بأنه من عند الله الذي يرزق من يشاء بلا جهد ولا تعب.

حال المؤمنين

ومن مقاصد هذه القصة بيان حال المؤمنين مع ربهم، حيث عرضت جملة صالحة من أخبار النخبة المختارة من البشر،
التي اصطفاها سبحانه لأداء رسالته، وجعلها ذرية بعضها من بعض، وتتمثل هذه الصور المشرقة في حديث
امرأة عمران مع ربها، ومناجاته في شأن وليدتها.

وقصة آل عمران جاءت تمهيداً للموضوع الذي تعالجه وتواجهه وهو شبهات النصارى وبخاصة ما يتعلَّق منها
بعيسى عليه السلام، وتدور حول عقيدة التوحيد الخالص، كما جاء به الإسلام، وتصحح ما أصاب عقائدهم من انحراف
وخلط وتشويه، وتدعوهم إلى الحق الواحد الذي تضمنته كتبهم الصحيحة التي جاء القرآن بصدقها.