من قصص النضال الوطني في الاستقلال ... ما أشبه الليلة بالبارحة !! ..
بقلم: عباس فوراوي
سودانايل
الثلاثاء, 31 ديسمبر 2013 م
******
عبدالله ودالصالحة ضابط شرطة متقاعد ، التحق بقوة بوليس السودان في العام 1953م
كجندي نفر، وبعد التخرج أُلحق للعمل ببوليس مديرية الخرطوم .عند منتصف نهار الحادي
والثلاثين من ديسمبر 1956م قام المرحوم الحكمدار حيدر أبوزيد بجمع قوة البوليس
المرابطة بالقسم الغربي - التي من ضمنها الجندي عبدالله - لاخطارهم بأنه عليهم تغطية
احتفالات البلاد باستقلال السودان ، ورفع العلم السوداني فوق سارية القصر الجمهوري
صباح غدٍ الأول من يناير 1956م ، بواسطة الزعيمين الكبيرين الأزهري والمحجوب
عليهما الرحمة .
لحسن حظ الجندي عبدالله ودالصالحة أنه كان مرابطاً في قلب الاحتفال، وكانت تقف أمامه
مباشرة الفنانة المناضلة حواء الطقطاقة، التي كانت ترتدي علم السودان ذا الألوان الثلاثة
الأخضر والأصفر والأزرق، كثوب نسائي يشهد على أنها أحرزت سبقاً استقلالياً مبهراً .
مصور الاحتفالات الذي صور الحدث التاريخي ، التقط صورة للمرحومة حواء الطقطاقة ،
وخلفها يرابط الجندي عبدالله ودالصالحة ، الذي لم تفصله عن المناضلة حواء إلا سنتمترات
قليلة، تُحسب مسافة شرعية بمقاييس ذلك الزمان الرحب .
المناضل عبدالله ساهم بدمه الذي كان داخل شرايينه بدحر الاستعمار الثنائي الانجليزي
المصري ، ولم يقتصر دوره على تأمين الحدث الهام فقط ، بل ساهم في اصطحاب
المستعمرين من مكان الاحتفال حتى ركوبهم قطار الجلاء الأبدي بمحطة سكك حديد
بحري .
قام أيضاً بانقاذ أحد ( الفرحانين ) بالاستقلال من الغرق، بسبب الغبطة العارمة التي اجتاحت
الجماهير الغفيرة لحظتئذٍ .
واصل الجندي كده وبذله وعطاءه في عالم الجندية متنقلاً بمختلف الادارات والوحدات الشرطية،
حيث تم نقله للعمل ببوليس مديرية أعالي النيل بجنوب السودان ، وظل هناك حتى حلول اتفاقية
أديس أبابا في 1972م .
أخيراً حط رحله بوزارة الداخلية حتى وصل الى رتبة الملازم أول ثم ذهب الى المعاش ،
وقد كان ممكناً أن يصل الى رتبة النقيب لولا أن داهمته ملاريا سن الخامسة والخمسين
في 1989م، كما يداهم رمضان الناس سنوياً .
الجندي عبدالله لم يكن يدر وإلى وقت قريب بأنه كان مناضلاً ،ساهم مساهمة ايجابية في رفع
العلم السوداني وانزال علم الحكم الثنائي ، إلا عندما قام التلفزيون بعرض فيلم عن الاستقلال ،
فشاهد نفسه التي لا تغباه ، وهو جوار حواء الطقطاقة يرتدي زي البوليس، المكون من
البردلوبة والرداء الكاكي والشبط والقلشين والكسكتة المحلاة برأس الفيل ، شعار مديرية
الخرطوم .
لقد ظل الرجل يحمل حقيبة ذكرياته المشحونة برصيد النضال الوطني السلس والبغض السلمي
للمستعمرين، وما انفك يحتفظ بالصور الفوتوغرافية التي تسند حججه مطالباً المسؤولين بفتح
كوة من التاريخ النضالي أمامه لينفذ من خلالها جنباً إلى جنب مع الذين كرمتهم الدولة وخلدتهم
. لا زال يقول بأنه غير محظوظ في هذه الدنيا أبداً، فقد ماتت حواء الطقطاقة قبل أن تقول كلمتها ،
شاهدة على نضاله الذي لم يتوَّج بتكريمه... كانت ستدعمه زميلته في النضال ، التي كانت ترتدي
علم الاستقلال، وتناضل عبرالزغاريد والهاب الحنجرة بالهتاف .
تم تكريمها بما يليق بمجاهداتها الوطنية دون التعمق في النسبة المئوية التي ساهمت بها ودون
قياس لمحلول النضال، الذي خالط منها الدم واللحم وربما خالط دماء آخرين معلومين وغير
معلومين ..
لم تكن حواء الطقطاقة وحدها من العنصر النسائي الذي أثرى ساحات النضال الوطني في ذلك
الزمان، فقد سجل التاريخ أيضاً مواقف أخرى لنساء أُخَر . أورد الدكتور مختار عجوبة في مؤلفه
القيم " المرأة السودانية .. ظلمات الماضي وإشراقاته " صفحات نضال بيضاء لنساء رماديات،
مشيداً بدورهنَّ وناعتاً إياهنَّ بالنساء الوطنيات فكتب ( لابد من الاشارة للنساء الوطنيات قاطنات
أحياء المصابيح الحمراء ، اللاتي احتفلن باستقلال السودان في 1/1/1956م على طريقتهنَّ
الخاصة ..
حيث أعلنَّ اضراباً عن العمل لمدة يومين والذي رفضن خلالهما استقبال الزبائن البيض ) .
محظيات مناضلات دخلن في نوبة نضال قاسي بحجة التفاعل الوطني ، في أعتى قرار كاسرٍ
لعنق قانون البلديات، ولوائحه المنظمة لأفعالهم وأفعالهنَّ .
هل يا ترى يمكن اعتبارهؤلاء المومسات المتفاعلات، بطلاتٍ وطنياتٍ، جنباً الى جنب مع
الذين عبروا عن وطنيتهم بالاغماء، أو القاء النفس في النيل الأزرق غرقاً من الفرحة ؟
وهل كان لمن سبقونا عمراً من الآباء والأمهات ( بدون فرز )ارتباطٌ فعالٌ بأي نضال بستحق
التدوين والتسجيل بأي نوع من الأحبار؟ وكم عدد الشهداء الذين تساقطوا جراء هذا النضال
الذي استمر قرابة الستين عاماً وكيف كانوا يناضلون ؟ وكم عدد الضحايا من دولتي الحكم
الثنائي ؟
الاجابة غير مطلوبة ،ولكن هنالك حكاية أخرى ذكرها أحد أحفاد المناضلين المنتمين لهذه
الفئات المظلومة تاريخياً على الأقل. ذكر بأن جده مأمون كان في انجلترا قبل الاستقلال
بعام ، وقد شارك هناك بفعالية ونكران ذات في اشعال مظاهرات عارمة، تنادي بخروج
الانجليز من السودان .
تجاوب الرجل مع الشباب البريطاني متفاعلاً مع مظاهراتهم الضخمة التي كانت نتيجتها
خروج المستعمر من السودان ، فلم تكرمه الدولة بوسام أو نوط أو حتى ب (ظرف ) .
المفاجأة تمثلت في قيام الحكومة البريطانية بتكريم والده المناضل، تقديراً وعرفاناً لخدماته
الجليلة للامبراطورية البريطانية عبراحتجاجاته المعبرة والمطالبة بخروج الانجليز سالمين
من السودان.
نعم السودان الذي كان عبئاً ثقيلاً على الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس !! .
السؤال الذي يطرح نفسه ، هل يمكن اعتبار حواء الطقطاقة، والضابط عبدالله
ودالصالحة، ومأمون ،ومحظيات السجم والرماد، مناضلين وأبطال يجب تكريمهم
لمساهماتهم في استقلال السودان ؟
وهل كل الذين كرِّموا بالأوسمة والأنواط والأناشيد مع ترديد أسمائهم سنوياً عبر وسائل
الاعلام أيضاً كانوا مناضلين، بالرغم من موتهم على سررهم دون أن تمس أجسادهم
طعنة شوكة أو أنثى أنوفليس !؟
أم أنَّ يأس وقنوط الانجليز من الحالة السودانية هما اللذان عجلا بالرحيل !؟
رحم الله أبطالنا ومناضلينا القدامى فقد أفلحوا - عبر روايات تحت البحث-
في طرد الانجليز والمستعمرين، باستخدام أسلحة ( عدم النضال ) الشامل
في أغرب استراتيجية وطنية نضالية يمكن أن يطبقها بشر..
ما أشبه الليلة بالبارحة !!