ودبشير ارض الشمال
مرحبا بالزاير الكريم انت لم تسجل بعد سارع
بالتسجيل
او الدخول
‏ ‏ نرجو ان تجدوا ما يسركم و نتعاون معا ليرتقي الي ما نصبو اليه

والله ولي التوفيق
ودبشير ارض الشمال
مرحبا بالزاير الكريم انت لم تسجل بعد سارع
بالتسجيل
او الدخول
‏ ‏ نرجو ان تجدوا ما يسركم و نتعاون معا ليرتقي الي ما نصبو اليه

والله ولي التوفيق
ودبشير ارض الشمال
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ودبشير ارض الشمال

اسلاامي / اجتماعي / ثقافي / رياضي/ برامج والعاب / اكواد دعم منتديات
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  المنشوراتالمنشورات  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  صفحتنا على الفيس بكصفحتنا على الفيس بك  

 

  عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 795
تاريخ التسجيل : 30/03/2012
العمر : 68
الموقع : wadbashir.2morpg.Com

 عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين Empty
مُساهمةموضوع: عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين    عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين Emptyالجمعة يونيو 27, 2014 3:11 pm


عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين

1 ـ يذكر التاريخ، أن عمرو بن العاص، كان ابن سيّد من سادات قريش البارزين، الذين أظهروا عداوتهم للنبي صلى الله عليه و سلم وللمسلمين، وناصبوهم العداء الشديد، ولكنه كان يحترم حرية الرأي، ويتميّز بالذكاء والدهاء، وكان من أغنياء قريش المترفين مشهورًا بالكرم، وحسن الوفادة، ومعاونة المحتاج، فمدحه الشعراء في حياته، ورثوه بعد وفاته.
ويذكر له، أنه كان من بني سَهْم، أحد بطون قريش العشرة، الذين انتهى إليها الشرف قبل الإسلام، وكان لكل بطن من تلك البطون واجب خاص بها، فكان بنو سَهْم أصحاب الحكومة في قريش، والحكومة عمل يشبه القضاء، وكان لهم الرئاسة على الأموال الخاصة بآلهة قريش.
ويذكر له، أنه نشأ في بيئة حضرية بمكة، لم تنقطع صلتها بالبداوة، برعاية والده الألمعيّ، وأمّه الذكية الحصيفة، وترعرع في بيئة صالحة لتنشئة القادة والإداريين.
ويذكر له، أن قريشًا أوفدته إلى النجاشي في أرض الحبشة، ليعيد النجاشـــي المسلمين المهاجريــن إلى أرضـــه، ويسلِّمهـــم إلى عمـــــــرو ابن العاص، ليعيدهم إلى كفار قريش بمكة، فأخفق عمرو في سفارته، وبقي المسلمون المهاجرون بحماية النجاشي في أرض الحبشة.

ويذكر له، أنه قاتل المسلمين مع المشركين في غزوتي أُحُد والأحزاب قائدًا مرؤوسًا، وبذل قصارى جهده لإحراز النصر على المسلمين دون جدوى.

ويذكر له، أن قريشًا أوفدته مرة ثانية سفيرًا إلى النجاشي ملك الحبشة، ليسلِّم إليه المسلمين المهاجرين إلى أرضه، ليعيدهم إلى مشركي قريش في مكة، فأخفق عمرو في سفارته الثانية إخفاقًا كاملاً، كما أخفق في سفارته الأولى.

ويذكر له، أنه كان من فرسان قريش، وأبطالهم في الجاهلية، مذكورًا بذلك فيهم، وكان شاعرًا، ومن أشد الناس على النبي صلى الله عليه و سلم، وعلى الإسلام والمسلمين، معروفًا بالدهاء، وحسن التصرف بين رجالات قريش، وكان قائدًا من ألمع قادة قريش، وسياسيًا من أبرز ساستهم، ولكنه أخفق في عداوته للإسلام والمسلمين، بالرغم من كفايته وجهوده، فاقتنع أنه على الباطل، وأن النبي صلى الله عليه و سلم والإسلام والمسلمين على الحق، فتحوّل بكل طاقاته إلى الدين الجديد، تحوّل اقتناع لا تَحوّل عاطفة، وقطع صلته نهائيًا بالشرك والمشركين.

ويذكر له، أنه من القلائل الذين لهم تاريخ معروف في الجاهلية، فأضاف إليه ما سطّره في تاريخه الإسلامي بعد إسلامه.

2 ـ ويذكر التاريخ لعمرو، أنه أسلم في السنة الثامنة الهجرية قبل الفتح، وهاجر إلى المدينة، فأصبح موضع ثقة النبي صلى الله عليه و سلم، وموضع اعتماده.. وكان إقباله على الإسلام نتيجة لتفكيره العميق، واقتناعه الكامل، فأسلم الناس، وآمن عمرو، كما وصف إقبال عمرو على الإسلام النبي صلى الله عليه و سلم.

ويُذكر له، أنه كان أحد قادة النبي صلى الله عليه و سلم، فتولّى سرية ذات السلاسل، ونجح في قيادته نجاحًا باهرًا.

ويذكر له، أنه تولي قيادة سرية هدم سُوَاع صنم هُذيل، فأدّى واجبه، وهدم الصنّم.

ويذكر له، أنه شهد غزوة فتح مكة، وغزوة حُنين، وغزوة حصار الطائف، فأبلى مع المسلمين في هذه الغزوات أعظم البلاء.

ويذكر له، أنه نال شرف الصُّحْبة، وشرف الجهاد تحت لواء الرسول القائد، عليه أفضل الصلاة والسلام.

ويذكر له، أنه حظي بمناصب قيادية وسياسية وإدارية ومالية، لم يحظ بها غيره من الصحابة رضي الله عنهم، بالرغم من تأخر إسلامه نسبيًا، فقد كان قائدًا من قادة النبي صلى الله عليه و سلم، ومن سفرائه، وولاته، ومن عماله على الصدقة، وهذا ما لم يتيسر لغيره من الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه و سلم.

3 ـ ويذكر له، أنه شهد حرب الرّدة قائدًا على عهد أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، وأنه انتصر على المرتدين من قُضاعة، انتصارًا عظيمًا، فعادوا إلى الإسلام من جديد.

ويذكر له، أن أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، أعاده إلى ولاية عُمان، فلم يكد يستقر فيها، إلا وولاّه قيادة جيش من جيوش المسلمين المتوجّهة لفتح بلاد الشام، وجعله على فلسطين بالذات.

ويذكر له، أنه أشار على قادة جيوش المسلمين بالاجتماع في موضع واحد، بقيادة موحدة، فاجتمعوا باليرموك، بعد أن كانوا متفرقين، في مواضع بعيدة يصعب التعاون بينها، ويسهل على الروم ضربها على انفراد.

ويذكر له، أنه شهد معركة اليرموك الحاسمة، قائدًا لميمنة المسلمين، فكان لعمرو أثر كبير في انتصار المسلمين على الروم في تلك المعركة الحاسمة، التي فتحت أبواب أرض الشام للفاتحين المسلمين.

ويذكر له، أنه شهد فتح دمشق، وشهد فتح الأردن، وكان لقيادته أثر كبير في انتصار المسلمين على الروم.

ويذكر له، أنه فتح فلسطين عدا القُدس، الذي شهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فتحها مع قادة المسلمين الآخرين، وأنه أبلى في فتح فلسطين أعظم البلاء.

ويذكر له، أنه فتح مصر، كِنَانة الله في أرضه، وغرس في تربتها الطاهرة، العربية لغة، والإسلام دينًا، ولا تزال منذ فُتحت ترعى العربية والإسلام.

ويذكر له، أنه أول من فتح ليبيا، وأدخل إلى ربوعها العربية لغة، والإسلام دينًا.

ويذكر له، أنه أول من فكّر في فتح النُّوبة، ومهّد لفتحها، ولكنه لم يستطع فتحها في حينه.

ويذكر له، أنه أول مَن فكر بفتح إفريقية (تونس) ومهّد لفتحها، وبعث البعوث، لتحقيق فتحها.

لقد كان من ثمرات جهاده، فتح فلسطين ومصر وليبيا، وهي بلاد لم يفتح غيره من قادة الفتح في عهد الإسلام، أوسع منها، وأكثر خيرًا، هذا بالإضافة إلى مشاركته في حروب الردة، وفتوح الشام.

4 ـ ويذكر التاريخ لعمرو، أنه كان أحد ولاة النبي صلى الله عليه و سلم، وأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، ومعاوية بن أبي سفيان، وأنه كان إداريًا لامعاً، من ألمع الإداريين المسلمين في أيامه، وحتى اليوم.

ويذكر له، أنه كان عالمًا في الدين الحنيف، محدِّثًا، فقيهًا، مجتهدًا، وكان من أصحاب الفُتيا من الصحابة، وكان قاضيًا متقنًا للقرآن الكريم.

ويُذكر له أنه كان كاتبًا بليغًا في نظمه ونثره، وله رسائل وأقوال مأثورة، وله شعر يدل على شاعريته المتميزة، ورصيده اللغوي الكبير.

ويذكر له، أنه كان خطيبًا مصقعًا، من ألمع خطباء الصحابة والتابعين من بعدهم، ومن أبلغ خطباء العرب في كل العصور.

ويذكر له، أنه من دُهاة العرب المعدودين، وشجعانهم، وكان من أفراد الدهر، دهاءً، وجلادة، وحزمًا، ورأيًا.

ويذكر له، أنه كان حكيمًا من الحكماء، له أقوال كثيرة في الحكمة، تجري مجرى الأمثال السائرة، ولا تزال بالغة الحكمة حتى اليوم، كأنها من أحاديث اليوم لا من أحاديث القرون.

ويذكر له، أنه كان ذا شخصية قوية نافذة، يحب الإمارة، غير مسرف، حليمًا، متواضعًا، منصفًا، معتزًا بكرامته، إداريًا، عادلاً، مؤمنًا لا غبار على إيمانه.

ويذكر له، أنه كان قائدًا عبقريًا، فهو من ذوي الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية، وكانت صفات القيادة متجسّدة فيه، ويطبّق مبادئ الحرب في عملياته بكفاية واقتدار.

ويذكر له، أنه كان سفيرًا فذّا، استطاع أن يستقطب أهل عُمان، شعبًا ومَلِكًا، ويجعلهم يعتنقون الإسلام، وينتهون عن الشرك.

ويذكر التاريخ له، أنه كان يتحلى بكفايات عالية، أهلته لإحراز النجاح في السلم، والنصر في الحرب، وأبرزته على أقرانه في حياته، وعلى أمثاله بعد رحيله.

ويذكر له، أن هناك إجماعًا على تقدير أعماله مجاهدًا، واختلافًا على تقويم أعماله إنسانًا.

رضي الله عن الصاحبي الجليل، القائد الفاتح، الإداري الحازم، الفقيه المحدث، العالم المجتهد، الشاعر الناثر، الكاتب الخطيب، الحكيم الداهية، السفير اللامع، عمرو بن العاص السَّهْمِيّ القُرَشي.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wadbashir.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 795
تاريخ التسجيل : 30/03/2012
العمر : 68
الموقع : wadbashir.2morpg.Com

 عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين Empty
مُساهمةموضوع: رد: عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين    عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين Emptyالجمعة يونيو 27, 2014 3:13 pm


القـــائـد - 1 -
1 ـ في ولاية عمرو بن العاص الثانية، التي بدأت سنة ثمان وثلاثين الهجرية، وانتهت بانتهاء حياته، سنة ثلاث وأربعين الهجرية، والتي كانت في خلافة معاوية بن أبي سفيان، لم يقتصر نشاط عمرو على القضايا الإدارية، بل شملت الفتوح، كما هو دأبه دائمًا، وكان مجال نشاطه في الفتوح هو ساحة ليبيا وإفريقية (تونس).
فقد عقد عمرو لشَريك بن سُمَيّ الغُطَيْفي على غزو لَوَاتَة (وقد تُضَمُّ لامُه)، فغزاهم شَرِيك في سنة أربعين، فصالحهم، ثم انتقضوا بعد ذلك على عمرو بن العاص، فبعث إليهم عُقبة بن نافع بن عبد القَيْس الفِهْري في سنة إحدى وأربعين الهجرية، فغزاهم، وانتهى عُقبة بن نافع إلى لَواتَة، ومزاتة في ليبيا، فأطاعوا ثم كفروا، فغزاهم في سنته، فقتل وسبى، ثم افتتح سنة اثنتين وأربعين الهجرية (غدامِس)، فقتل وسبى. وفتح سنة ثلاث وأربعين الهجرية (وَدَّان)، وهي من بَرقة، وافتتح عامة بلاد البربر، كما عقد عمرو لشريك مع عُقْبة سنة ثلاث وأربعين الهجرية، فلما قفلا كان شديد الدَّنف من مرض موته.

2 ـ وقد عوّدنا عمرو، أن يقود الفاتحين في ولايته إلى الفتوح، كما فعل في ولايته الأولى على مصر على عهد عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، رضي الله عنهما، حيث قاد جيش المسلمين، الذي فتح ليبيا، ولكنه في ولايته الأولى اختار قائدين من قادته لتأمين استمرارية الفتوح، ويبدو أن أسباب تَخَلِّيهِ عن القيادة هي: لتوطيد الأمن والاستقرار في مصر، قاعدة فتح إفريقية، بعد الهزّات العنيفة، التي اجتاحتها في أواخر عهد عثمان بن عفان، وفي أيام الفتنة الكبرى، وبعد الحروب التي عانتها، بين أهل الكوفة وأهل الشام، وانقسام أهلها شيعًا وأحزابًا.. والسبب الثاني، أنه أصبح شيخًا طاعنًا في السِنِّ لا يتحمّل أعباء الجهاد بما فيه من مشقة، وتضحية، وفداء، كما يتحمّلها الشباب والكهول.. والسبب الثالث: أن أمراض الشيخوخة، أصبحت تعتاده وتلازمه، ولا تكاد تفارقه إلا قليلاً.

ومنذ بدأ عمرو، يزاول مهنة القتال، ابتداءً من غزوة بدر الكبرى، التي كانت في شهر رمضان من السنة الثانية الهجرية، أصبح عمرو يمارس هذه المهنة بكفاية، ونجاح، ما دام قادرًا على حمل السيف.. كان من حُماة قافلة أبي سفيان، التي كانت السبب المباشر لغزوة بدر، وشهد غزوة أحد، التي كانت في شهر شوال، من السنة الثالثة الهجرية، مع المشركين على المسلمين، وشهد غزوة الأحزاب (الخندق)، التي كانت في شهر شوال من السنة الخامسة الهجرية مع المشركين على المسلمين أيضًا.

ولم يقض المدة بين غزوة أحد، وغزوة الأحزاب متعطّلاً، فقد كان يعمل على إعداد مشركي قريش للحرب، كما كان يعمل لحشد الأحزاب للحرب أيضًا، فكانت غزوة الأحزاب ثمرة من ثمرات جهوده المتواصلة مع أقرانه من أعداء الإسلام.

ولم يشهد عمرو غزوة الحُدَيبية مع المشركين، لأنه كان في سفارة لقريش لدى بلاط النجاشي ملك الحبشة، في محاولة طرد المسلمين من الحبشة، أو تسليمهم إلى مشركي قريش، ولكن سفارته الحبشية باءت بالإخفاق، لأن النجاشي لم يتجاوب مع عمرو، وحكّم عقله، ومنطقه، فرفض ما عرضه عليه عمرو رفضًا قاطعًا، فعاد عمرو إلى قريش خائبًا.

وأسلم عمرو في السنة الثامنة، فتولّى قيادة سرية من سرايا النبي صلى الله عليه و سلم، وشهد كثيرًا من غزواته، وكان سفيره إلى عُمان، وعامله عليها، ومن عمّاله على الصدقة أيضًا، كما ذكرنا ذلك بالتفصيل.

وبعد التحاق النبي صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى، سنة إحدى عشرة الهجرية، مضى عمرو في جهاده، فشهد حرب الردة، وشهد فتوح الشام، وفتح مصر وليبيا، ولم يتخلف عن الجهاد يومًا واحدًا، حتى عزله عثمان بن عفان عن مصر سنة سبع وعشرين الهجرية على أصح الأقوال.

لقد أمضى عمرو في الحرب ست سنوات، في قتال المسلمين (2هـ-8هـ)، وأمضي عشرين سنة في الجهاد، مع المسلمين قائدًا فاتحًا، وسفيرًا وإداريًا وجابيًا، وامتدّت ساحة عملياته من عُمان على الخليج العربي شرقًا، إلى مشارف تونس من البحر الأبيض المتوسط غربًا، في خدمة الإسلام والمسلمين.

ولم يكن عمرو قد تخلّى عن سيفه بعد عزله عن مصر مختارًا، بل كان مكرهًا، يتحيّن الفرصة السّانحة، ليعود إلى سيفه، أو يعود سيفه إليه، فلما انضم إلى معاوية، التحم في الاقتتال بين المسلمين في صِفِّين، وفي مصر مرة أخرى، حتى توفي سنة ثلاث وأربعين الهجرية، فسقط المحارب، دون أن يسقط السيف من يده.

3 ـ لقد أُتيحت لعمرو فرصة القتال، والجهاد، والاقتتال، من السنة الثالثة الهجرية، حتى سنة ثلاث وأربعين الهجرية، حمل السيف إحدى وثلاثين سنة منها مختارًا، وانتزع منه السيف عشر سنوات، أو نحوها قسرًا، أي أنه أمضى خمسة وسبعين بالمائة من سني حياته التي أتيحت له خلالها حمل السيف، مقاتلاً مجاهدًا، ومقتتلاً. وهو مقبل على سيفه، إقبال المحبّ الغاوي المحترف، مما أكسبه ممارسة طويلة لفنون القتال العملية، وتجربة عملية عريضة للقيادة في شتى الميادين، ومختلف الظروف والأحوال.

والتجربة العملية في الحرب، إحدى مزايا القائد العبقري الثلاث: الطبع الموهوب، والعلم المكتسب، والتجربة العملية.

وبدون شك، كان عمرو من ذوي الطبع الموهوب في القيادة، فهو يحب هذه المهنة، ويَطلبها ويُطَالِب بها، ويحرص عليها، ويغضب أشد الغضب، إذا جُرِّد منها، ويأوي إلى مَن يهبها له، وينفر ممّن لا يوفّرها له، وحتى إذا تولّى إمارة قطر من الأقطار، فإنه كان يُسَخِّر نفسَه للقيادة في ميدان الحرب، ولا يسخّرها للقضايا الإدارية، فهو يُؤْثِرُ أن يكون غازيًا، على أن يكون واليًا، ويفضِّلُ أخطارَ القتالِ على الراحة في القصور، دون أن تؤثِّر واجباته في الجهاد في واجباته الإدارية.

وقد نافس أبا عُبيدة بن الجراح، أمين الأمة، على القيادة في سرية ذات السلاسل، وكان بإمْرَة أبي عبيدة حينذاك أبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وغيرهما من كبار الصحابة، فانصاع أبو عُبيدة لإرادة عمرو، وأصبح بإمرته، وأبو عبيدة هو مَن هو، سابقةً، وإيمانًا، وجهادًا.

كما أن عمرًا، كان ألمعيّ الذكاء، حاضر البديهة، راجح العقل، حكيمًا داهية من دُهاة العرب المعدودين.

أمّا علمه المكتسب، فقد كان كل عربي قبل الإسلام وبعده، يتعلّم فنون الحرب السائدة في حينه: الرماية، والفروسية، واستعمال السيف، والرمح، والأسلحة الأخرى، وممارسة التعبية الصغرى في استخدام الأرض لحمايته من الرصد، والرمي، والتعسكر.. وكان عمرو قارئًا، كاتبًا، ومن مثقفي العرب القلائل في أيامه، ممّا أعانه على اكتساب العلوم النظرية والعملية في فنون القتال.

فلا عجب أن يمتد نشاط عمرو القيادي من عُمان إلى تونس، عبر آلاف الأميال، في قارتين من قارات العالم: آسية، وإفريقية، ثم لا يرتدّ له لواء في حروبه، بل يقود رجاله من نصر إلى نصر، ويبقى فَتْحُهُ فتحًا مستدامًا عبر القرون والأحقاب، ممّا يثبت أنه كان قائدًا عبقريًا حقًّا.

4 ـ وصفات عمرو القيادية، واضحة كل الوضوح من معاركه ونتائجها، فقد كان قادرًا بكفاية نادرة على إصدار القرارات السريعة الصحيحة في مختلف الظروف والأحوال.. والقرار السريع الصحيح، يستند على عاملين رئيسين: القابلية العقلية للقائد أولاً، والحصول على المعلومات عن العدو والأرض ثانيًا.

وقد تطرّقنا إلى قابلية عمرو العقلية الفذة، بما فيه الكفاية، وبقي علينا أن نتطرّق إلى العامل الثاني، وهو الحصول على المعلومات عن العدو والأرض.

لقد كان عمرو، يقدّر حق التقدير قيمة الاستطلاع، لهذا كان يواجه عدوّه وهو يعرف عنه كل شيء تقريبًا، فيتحرّك نحوه مفتوح العينين في النور لا في الظلام.

فقد كان من أسباب نجاحه في سرية ذات السلاسل، أن أمّ العاص بن وائل والد عمرو من بني (بَلِيّ)، لذلك عاونه أخواله في تيسير مهمته، وأمدّوه بالمعلومات الضرورية لإحراز النصر.

وكان لمعرفة عمرو بطبيعة بلاد الشام وفلسطين بخاصة: طبيعة أرضها، ومناطقها المناسبة للقتال، وبالطرق التقريبية إلى تلك المناطق، وبمزايا أهلها المحلِّيين، ومزايا الروم الدخلاء، أثر حاسم في انتصاره على الرّوم وحلفائهم في معارك فتح بلاد الشام.

والظاهر أنه لم يكتف بالمعلومات المتيسرة لديه عن فلسطين بالذات، فأقدم على مغامرة استطلاعية فذّة، فقام باستطلاع شخصيّ لمقر قائد الروم (أرطبون)، واطّلع على نقاط الضعف في مواضع الروم، وقواتهم عامة، وقائدهم، وبذلك انتصر عليهم بعد مناوشات طالت كثيرًا، ولكن هذه المغامرة الاستطلاعية الخطيرة، كادت أن تكلّفه حياته، لولا دهاؤه، وحسن تخلّصه من موقفه العصيب.

وكان لزيارة مصر، التي قام بها عمرو قبل إسلامه، أثر كبير في معرفته أحوال مصر وأخبارها، طرقها، وطبيعة أرضها، ومدى الاضطهاد الديني والسياسي، الذي يعانيه المصريون من الروم، فلا عجب أن يُقدم عمرو على فتح مصر ، وبقيادته ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل فقط، إذ لولا تيسّر المعلومات الكافية لديه عن مصر، وأهلها، وعداوتهم للروم، واستعدادهم لمعاونة المسلمين دون الروم، لما كان من المعقول أن يُقدم على فتح مصر بمثل هذا العدد الضئيل من الرجال.

5 ـ وكان عمرو يتمتع بحاسة متميزّة لتأثير طبيعة الأرض في سير القتال، فهو الذي أشار على قادة المسلمين في بلاد الشام بالاجتماع في اليرموك، فلما نزل الروم معسكرهم، انتقل المسلمون من معسكرهم القديم إلى معسكر جديد مناسب، فنزلوا على طريق انسحاب الروم، وليس للرّوم طريق إلا على المسلمين!.. حينذاك هتف عمرو: (أيها الناس! أبشروا، حُصرت والله الروم، وقلّما جاء محصور بخير).

وكما كان يحرص على جمع المعلومات عن العدو والأرض، كان يحرص على منع العدو من جمع المعلومات عن قواته وأرضه. فقد منع رجاله في سرية ذات السلاسل -وفيهم كبار الصحابة: أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، رضي الله عنهم، وغيرهم من كبار المهاجرين والأنصار- من إشعال النار ليلاً، على الرغم من شدة البرد وقسوته، ليحول دون كشف مواضعهم للعدو، وكشف عددهم القليل للعدو أيضًا.

وهذا المثال يدل على إيمان عمرو بأهمية الضبط، والطاعة، والسيطرة، لذلك كان يفرض على رجاله ضبطًا عاليًا، ويطالبهم بالطاعة المطلقة لأوامره، ويسيطر عليهم سيطرة تامة، وهو يدل على شدة ضبط عمرو، وسيطرته النافذة على مرؤوسيه، بصرف النظر عن قيمتهم الاجتماعية، والدينية، والسياسية.

6 ـ وكان على جانب عظيم من الشجاعة الشخصية، فقد كان من فرسان قريش، وأبطالهم في الجاهلية، مذكورًا بذلك فيهم، وكان جريئًا مِقْدامًا، وقد وصفه عثمان بن عفان لعمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، بقوله: (إن عَمْرًا لَمُجَرَّأٌ، وفيه إقدامٌ، وحبٌّ للإمارة ...)، وقد باشر القتال في القلب أيام صفين، فلما كان يوم من تلك الأيام، اقتتل أهل العراق، وأهل الشام حتى غابت الشمس، ثم اقتتلوا ساعة من الليل، حتى كثرت القتلى بينهم، فصاح عمرو بأصحابه: (الأرض... الأرض... يا أهل الشام!) فترجّلوا ودبَّ بهم، وترجّل أهل العراق أيضًا، فكان عمرو يقاتل وهو يقول:

وصَبَرْنا على مَواطِنِ ضَنْكٍ

وخُطوبٍ تُري البياض الوليدا

فأقبل رجل من أهل العراق، فضرب عمرًا ضربةً جَرَحَهُ على العاتق، فأَدْرَكَهُ عمرو فضربهُ ضربةً قضت عليه.

ومَوَاقِفُهُ البطولية، التي تدل على شجاعته الشخصية، أكثر من أن تُعدّ وتُحصى.

7 ـ ولكنه كان يحارب بعقله، كما كان يحارب بسيفه، بل كان عقله أمضى حَدًّا من سيفه، فيستعمل عقله في الحرب، أكثر مما يستعمل سيفه.

لقد حاول أن يحوِّل القتال بين عليّ ومعاوية، من حرب السيوف إلى حرب العقول، لكي يشلّ قوة رجال عليّ وطاقاتهم القتالية، ويفرّق بين صفوفهم.

وعمل جاهدًا على تشكيك عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، بأخلص رجاله وأعوانه، وأغرى قسمًا من أهل الكوفة بالمال والوعود، ليكونوا رَتَلاً خامسًا بين صفوف رجال عليّ بن أبي طالب.

ولما حاقت الهزيمة بأهل الشام في صفين، أشار عمرو على معاوية بن أبي سفيان برفع المصاحف، فنشب الخلاف بين رجال عليّ بن أبي طالب، منهم مَنْ أجاب، ومنه مَن خالف، لعلمه بأن رفع المصاحف خدعة، وبذلك نجا أهل الشام من اندحار أكيد، وتفرّق شمل أصحاب عليّ من أهل العراق، فلم يجتمع شملهم بعدها أبدًا.

ففي فتح مصر، استهان القِبط بالفاتحين، وقال قائلهم: (ما أرَثَّ العرب، ما رأينا مِثْلَنَا دان لمِثْلِهِم)، فخاف عمرو أن يطمّعهم ذلك، فأرى عمرو المصريين حال العرب في بلادهم قبل الفتح، وكيف أصبحوا بعد الفتح في تمتعهم بأسباب الحياة، وحالهم في الحرب، ثم قال للمصريين: (علمتُ حالكم حين رأيتم اقتصاد العرب، فخشيتُ أن تهلكوا، فأحببتُ أن أريكم حالهم في أرضهم كيف كانت، ثم حالهم في أرضكم، ثم حالهم في الحرب، فقد رأيتم ظفرهم بكم، وذلك عيشهم، وقد كَلِبوا على بلادكم بما نالوا في اليوم الثاني، فأردت أن تعلموا أنّ ما رأيتم في اليوم الثالث، غير تارك عيش اليوم الثاني، وراجع إلى عيش اليوم الأول).

وتفرّق المصريون وهم يقولون: (لقد رمتكم العرب برجلهم).

وبلغ عمر بن الخطاب ذلك، فقال: (والله إنّ حربه لَلَيِّنة، مالها سطوة ولا سَوْرة كسَوْرات الحروب من غيره).

لقد كان عمرو يجيد حرب الدعاية، ويؤمن بمبدأ: الحرب خُدعة.

وكان يحارب بعقله وسيفه، ولا يحارب بسيفه إلا إذا أعيته الحرب بعقله، ولم يبق أمامه لتحقيق أهدافه إلا السيف، وكان يمتلك في الحربين الشجاعة الشخصية، التي تقود إلى النصر ولا تقود إلى الهزيمة.

8 ـ وكان يتحلّى بالإرادة القوية الثابتة، قبل إسلامه، وبعد إسلامه، حتى مضى إلى جوار الله.

كانت إرادته القوية الثابتة قبل إسلامه، تتركّز على محاربة الإسلام والمسلمين، فحارب هذا الدين، والذين اعتنقوه، حربًا لا هوادة فيها في ميدان القتال، فقاتل المسلمين في أُحُد والأحزاب.

وكانت تلك الإرادة تتركّز بعد إسلامه في خدمة الإسلام والمسلمين، فحقّق ذلك عن طريق سفارته النبوية، وولايته على عُمان، وتولّيه جمع الصدقات -أحد أعمالها- للنبي صلى الله عليه و سلم، فلما التحق النبي صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى، حقّق إرادته في خدمة الإسلام والمسلمين عن طريق حرب الردة، وفتوح الشام ومصر وليبيا، والتمهيد المؤثِّر في فتح إفريقية.

ولكن إرادته القوية الثابتة، تتمثل في تحقيق طموحه في فتح مصر، وإقناع عمر بن الخطاب للموافقة على هذا الفتح، ومسيرته الطويلة الشاقة في فتح مصر ، بالسيف تارة، وبالمفاوضات تارة أخرى، وبالقتال مرة، وبالسلام مرة أخرى، حتى حقّق طموحه في فتح مصر.

ولما انتزع عثمان بن عفان منه مصر، وجّه إرادته لزعزعة مركز عثمان عن الخلافة، ولكن خليفة عثمان، وهو علي بن أبي طالب، لم يحقق له طموحه في تولّي مصر، فوجّه إرادته القوية مع معاوية على' عليّ من أجل ولاية مصر، حتى تحقق له ما أراد بإرادته القوة التي لا تلين.

إن إرادة عمرو القوية الثابتة، تبدو واضحة على كل أعماله، إنسانًا، وقائدًا، وإداريًا، وسفيرًا.

9 ـ وكان يتحمّل المسؤولية، ويحبّها ولا يتهرّب منها، ولا يلقيها على عواتق الآخرين خوفًا من عواقبها، وبخاصة في حالات الإخفاق.

وقد نافس أبا عبيدة بن الجراح على الإمارة في سرية ذات السلاسل، على عهد النبي صلى الله عليه و سلم، فرضخ أبو عبيدة لعمرو، خوفًا من الاختلاف.

وكان يطمح أن يتولى القيادة العامة في فتح بلاد الشام، منافسًا في ذلك أبا عُبيدة بن الجراح دون أن ينافسه أبو عبيدة، فكانت المنافسة من طرف واحد، ولكنّ أبا بكر الصديق، رضي الله عنه، لم يحقق له هذا الطموح، ولم يؤيّده عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ولم يعاونه في تحقيق ما طمح له من منصب رفيع.

والتطلع إلى الإمارة بما فيها من مسؤوليات جسام، يدلّ على أن الذي يتطلّع إليها، يحبّ المسؤولية، ولا يتهرّب منها، أو يبتعد عنها بالوقوف في الظلّ مغمورًا لا يعرف الناس، ولا يعرفه الناس.

ولا يقتصر حب عمرو للمسؤولية على قيادته العسكرية، بل يتعدّاها إلى مختلف نشاطه، في الجانب غير العسكري من حياته، فإقدامه على الاجتهاد في الدين، والنبي صلى الله عليه و سلم على قيد الحياة، والقرآن الكريم ينزل، وعَرْضِه وجهةَ نظره في اجتهاده للنبي صلى الله عليه و سلم -كما حدث بعد عودته من سرية ذات السلاسل- دليل على حبه للمسؤولية الأدبية الكاملة، وتمسكه بمسؤوليته الكاملة، دون خوف أو وَجَل.

لقد كان عمرو بحق يحب المسئولية، ويريدها لنفسه، ويطالب بها، ولا يستطيع الصبر على التخلي عنها طويلاً.

10 ـ وكانت له نفسية لا تتبدّل في حالتي النصر والاندحار، والواقع أنه لم يُصب باندحار حقيقي في معاركه، بل أصيب بمواقف حرجة للغاية، كموقفه بعد رِدّة العرب، فمرّ في طريقه من عُمان إلى المدينة المنورة بمُسَيلَمة الكذاب في ديار بني حَنيفة في طريق عودته إلى المدينة، فما انهارت معنوياته، ولا استكان، ولا هان، بل استطاع التخلص من مُسيلمة، الذي كان يقضي بالموت على المسلم، الذي لا يرتدّ عن دينه ويتبع مُسيلمة، وبخاصة إذا كان من قُريش، وكان من قادة قريش، ومن ولاة النبي صلى الله عليه و سلم وقادته وسفرائه، ومن المسلمين البارزين.

ولم تتبدّل نفسية عمرو، حين تأخر فتح الإسكندرية، حتى سمع لوم عمر بن الخطاب، وتقريعه على التأخير، بل بقي يفكّر، ويدبّر، ويستشير، ويخطط، حتى تمّ له فتح الإسكندية بالصبر، والمعاناة، والعمل الدائب، وثبات المعنويات.

ولعلّ تبدّل النفس البشرية، تكون في حالة النصر أشد خطرًا من حالة الاندحار، إذ تصاب النفس بالغرور، والكبرياء، والاستعلاء، والظلم، والعدوان، وقد انتصر عمرو كثيرًا، فما عرفنا أن نفسيته تبدّلت في حالة النصر، فوقع في شباك الأنفس الأمّارة بالسوء، بل بقيت نفسيته كما كانت، تلتزم بالحق وتأمر به، وتبتعد عن الظلم، وتنهى عنه، ولا تتقاذفها الهواجس والانفعالات.

11 ـ وكان يتمتّع بمزية سبق النظر، يحسب لكل شيء حسابه بدقة وإتقان، ولا يترك أمرًا مهما يكن طفيفًا تحت رحمة الصُّدَف، وحين فزع أهل المدينة المنوّرة على عهد النبي صلى الله عليه و سلم، لبس عمرو سلاحه، وقصد المسجد، على حين تفرّق المسلمون، فخطب رسول الله صلى الله عليه و سلم، فقال: (ألا كان مفزعكم إلى الله ورسوله ؟! ألا فَعَلتم كما فعل هذان الرجلان المؤمنان)، والرجلان كانا: عمرو بن العاص، وسالم مولى أبي حُذيفة.

كما أن بُعد نظره، يجعله يحول بين رجاله، وبين مطاردة قُضاعة بعد هزيمتها في سرية ذات السلاسل، خوفًا من وجود مددٍ لها، فيقع رجاله في كمين، يكبّدهم خسائر فادحة، أو يجعلهم يقاتلون عدوًّا متفوقًا عليهم دون مسوِّغ.

وكلّ المعارك التي خاضها في حرب الرّدة، وفي فتوح الشام، ومصر، وليبيا، فيها شواهد كثيرة على تمتعه بمزيّة بُعد النظر، كما أن أعماله غير العسكرية في الإدارة والسياسة، وحتى في علاقاته الشخصية، كان بعيد النظر، يقظًا أشد اليقظة، حذرًا أشد الحذر، وكان في قيادته لا ينام، ولا يُنِيم، تَحَسُّبًا لأسوأ الاحتمالات، فلا يؤخذ على حين غُرّة أبدًا.

12 ـ وكان من أولئك القادة، الذي يعرفون حق المعرفة نفسيات رجاله، وقابلياتهم، لأنه يُعايشهم في حلّهم وترحالهم، وأمنهم وخوفهم، وسلمهم وحربهم، أكثر مما يعايش أهله الأقربين، ويعيش بينهم أكثر مما يعيش بين أهله وعشيرته.

وهذه المعرفة الوثيقة، جعلته يكلّف كل فرد من أفراد قواته بالواجب الذي يناسب نفسيته، ويقارب كفايته، ويجعله يُقبل على واجبه إقبال محب له، لا كاره، وقادر عليه لا عاجز عنه، مما جعل رجاله ينهضون بواجباتهم بشوق، ولهفة، وحماسة، وينجحون في أدائها نجاحًا كبيرًا.

وبالنسبة للنفسيات والقابليات، كان يلقي على عواتق قسم منهم، واجبات القتال الفرديّ، وعلى قسم منهم واجبات القيادات، التي تعمل بسيطرته المباشرة، وعلى قسم منهم واجبات القيادة التي تعمل بسيطرته غير المباشرة، كالقيادة المستقلّة في فتح أنحاء مصر بعد استسلام حصن بابليون في المعركة الحاسمة، كما كان يكلّف قسمًا منهم بواجب السفراء بينه وبين العدو، وواجب المفاوضين، وغيرها من الواجبات الأخرى، التي جاء ذكرها في معاركه الكثيرة شرقًا وغربًا.

والسبب الوحيد لنجاح رجاله في أداء الواجبات، التي ألقاها عمرو على عواتقهم; هو معرفته التامة بنفسيات وقابليات رجاله، فكان يضع الرجل المناسب في الواجب المناسب.

ويبدو أنه كان في تعيينه القادة المرؤوسين بخاصة، واختيار الإداريين ورجال الشرطة، والقضاة، لا يتأثر إلا بالكفايات العالية المتميزة، والإيمان الصادق العميق.. واستعراض أسماء قادته المرؤوسين، وأصحاب المناصب الأخرى، الذين اختارهم عمرو، خير دليل على ذلك.

13 ـ وكان يثق برجاله ثقة تامة، ويثقون به ثقة لا حدود لها. والدليل على ثقته برجاله هو أنه كان يقودهم مدة طويلة في فتوح بلاد الشام، وعندما سُمح له بفتح مصر، اختار رجاله من الذين عملوا بقيادته ردحًا طويلاً، وخَبَر كفاياتهم، ومزاياهم، ونفسياتهم، ولولا ثقته الكاملة بهم، لما أقدم على محاولة فتح مصر، وعددهم يومئذ كان ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، لأن تعداد رجاله بالنسبة لواجبهم في الفتح قليل جدًا، ولكنه أقدم على محاولة فتح مصر، وبقيادته هؤلاء الرجال القليلون عَدَدًا، لأنه كان يثق بهم ثقة تامة.

وقد أثبتت قوات عمرو بأنها حَرِيّة بثقته الكاملة، فقد أنجزت له واجبات الفتوح بصورة تدعو إلى التقدير والإعجاب، كما أنها صبرت على حصار حصن بابليون سبعة أشهر، حتى استطاعت فتحه، وصبرت ثلاثة أشهر على حصار الإسكندرية، حتى استطاعت فتحها، ومن المعلوم أن الجيش الذي يصبر على الحصار طويلاً يُعَدّ من الجيوش ذات التدريب العالي، والضبط المتين، والمعنويات الرفيعة، ومثل هذا الجيش يستحق كل الثقة من قائده في كل زمان ومكان، وفي مختلف الظروف والأحوال.

أما ثقة رجال عمرو بعمرو، فلأنه قائد منتصر، يقود رجاله من نصر إلى نصر، ولأنه يضرب أروع الأمثال لرجاله في التضحية والفداء، فكان يقود رجاله من الأمام، يقول لهم: اتبعوني، ولا يقودهم من الخلف، فيأمرهم بالتقدّم، ويقبع هو في موقع أمين بعيد عن الأخطار.

14 ـ وكان يستأثر بالخطر، ويؤثر رجاله بالأمن، فيدخل حصون أعدائه، ويحاور قادة الأعداء، ويعرّض نفسه لأفدح الأخطـار، ولا يستأثر بالخير دونهم، ولا يترفع عنهم، ويعاملهم معاملة الآباء للأبناء.

وكانت أخلاقه الشخصية رضيّة جدًا، وهو القائل: (ما أفحشتُ قطُّ إلا في ثلاث مرات: مرتين في الجاهلية، وهذه الثالثة، وما منهن مرة إلا وقد ندمت واستحييتُ، وما استحييتُ من واحدة منهن أشد مما استحييت مما قلتُ لك، والله! إني لأرجو ألا أعود إلى الرابعة ما حييتُ)، وكان قد قال لرجل من رجاله في ساحة القتال كلمة نابية، فقال له: (استغفر لي ما كنتُ قلتُ لك)، فاستغفر له الرجل.

وقد وصفه رجل من تُقاة المسلمين فقال: (صحبتُ عمرو بن العاص، فما رأيتُ رجلاً أبين قرآنًا، ولا أكرم خُلُقًا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه).

وكما كان موضع ثقة رجاله، كان موضع ثقة رؤسائه، فقد كان أحد سفراء النبي صلى الله عليه و سلم، وأحد قادته، وأحد ولاته، وأحد عمّاله على الصدقات، ولا أعرف صحابيًا غير عمرو تولّى للنبي صلى الله عليه و سلم كل هذه المناصب السياسية، والعسكرية، والإدارية، والمالية، في حياته المباركة، مما يدل على ثقة النبي صلى الله عليه و سلم بعمرو سياسيًا، وعسكريًا، وإداريًا، وماليًا، كما كلّفه بالقضاء في قضية من القضايا، وكان من أصحاب الفُتيا في الصحابة، والمجتهدين بالدين في حياة النبي صلى الله عليه و سلم، مما يدل على ثقته بعلم عمرو وكفايته القضائية.

وكان موضع ثقة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، فقد كان أحد قادته، وكان موضع ثقة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذ كان أحد قادته وولاته، وكان موضع ثقة عثمان بن عفان، رضي الله عنه، لأنه كان أحد قادته وولاته، وقد عزله عن مصر، لأنه يستطيع أن يسيطر على خَلَفِه، ولا يستطيع السيطرة عليه، وكان بعد عزله عن مصر موضع استشارة، فيما يعرض من معضلات جسام، مما يدل على أنه كان موضع ثقته، حتى بعد عزله عن مصر، وتوتر العلاقات الشخصية بين الرجلين.

وقد فرّقت السياسة، بين الإمام عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، بعد توليه الخلافة، وبين عمرو بن العاص، الذي كان يطمح باستعادة ولايته على مصر، والسياسة لا تتدخل في شيء إلا أفسدته، وإلا فلا يمكن أن يكون الإمام عليّ يجهل مكان ومكانة عمرو، وأهميته القصوى للدولة الإسلامية الفتية، قائدًا، وإداريًا، وسياسيًا، ومفكّرًا، كما أن عمرًا لا يمكن أن ينكر مكان عليّ، ومكانته وأهميته القصوى للدولة الإسلامية الفتية خليفة من الخلفاء الراشدين المهديين.

أما الثقة، بين معاوية بن أبي سفيان، وعمرو، فمعروفة، وهي أشهر من أن تكون بحاجة إلى إيضاح أو تفصيل.

ومن الطبيعي أن يثق بالقائد المنتصر، الذي يقود رجاله من الأمام، ويضرب لهم أروع الأمثال، في الشجاعة والإقدام، والتضحية، والفداء، والذي يتحلّى بالخلق الكريم، والكفاية العالية، رجاله الذين يعملون بقيادته، ورؤساؤه الذين يعمل بإمرتهم، ويكون موضع ثقة أمته عامة، وأن يبادلهم ثقة بثقة.. والثقة المتبادلة هي التي تشيع الانسجام، والضبط، والتعاون، بين الرئيس والمرؤوس، والقائد والمقود، من أجل تحقيق النصر المؤزّر.

ولا يمكن أن ينتصر قائد لا يثق به رجاله، ولا قائد لا يثق برجاله، فالثقة المتبادلة من العوامل الحاسمة، لإحراز النصر بين القادة من جهة، والرجال من جهة أخرى.

15 ـ وكان يحب رجاله، وكان رجاله يحبونه، وكانت المحبة المتبادلة شائعة بين القيادة والجنود، وقدقال له حرسه حين حضرته الوفاة: (كنتَ لنا صحاب صِدْق، تكرمنا وتعطينا، وتفعل وتفعل)، مما كان ينعم به عليهم، ويهبه لهم، ويكرمهم به.

ولكن عمرًا، كان يعرف واجباته، فيؤديها كاملة، ويحاسب نفسه على أدائها، قبل أن يحاسبه غيرُهُ، ويعرف حقوقه، فيطالب بها، ويحاسب غيره عليها، ولا يتغاضى عنها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.

كما كان يعرف حقوق رجاله، فيؤديها لهم أداءً كاملاً، ويعرف واجباتهم، فلا يسكت على إهمالها، أو أدائها غير كاملة، أو بشكل غير متقن.

والمحبة المتبادلة شيء، والحقوق والواجبات شيء آخر، وما كانت المحبة المتبادلة تؤثر في مجرى حقوق عمرو، وواجباته، وحقوق رجاله وواجباتهم.

وقد كان رجل ممّن خرج مع عمرو، حين خرج من الشام إلى مصر، أُصيب بجملٍ له، فأتى إلى عمرو يستحمله، فقال له عمرو: (تحمّل مع صحابك حتى تبلغ أوائل العامر)، فلما بلغوا العريش جاءه، فأمر له بجملين، ثم قال: (لن تزالوا بخير، ما رحمتكم أئمتكم، فإذا لم يرحموكم هلكتم وهلكوا).

وكان الذين لا يعرفون عمرو بن العاص، لا يستطيعون أن يميزوه عن رجاله في شيء، إذ كان كأحدهم: (ما يُعْرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد)، كما وصف رسل المُقَوْقس عمرو بن العاص ورجاله.

وكان عمرو يرفق بالحيوان الضعيف، وإنما سمّيت الفسطاط، لأن عَمرًا لما أراد التوجه إلى الإسكندرية، لقتال مَن بها من الروم، أمر بنزع فسطاطه، فإذا فيه يَمَامٌ قد فرَّخ، فقال عمرو: (لقد تحرّم منا بمتحرّم)، وأمر بالفسطاط، فأُقر كما هو، وأوصى به مَنْ بقي، ولما قفل المسلمون من الإسكندرية، قالوا: أين ننزل؟ قالوا: الفسطاط، لفسطاط عمرو، الذي كان خَلَّفه.. فإذا كان هذا مبلغ رفقه بالحيوان، فهو برجاله أرفق.

ولكن حبّه العميق لرجاله، لم يكن يمنعه أن يحثّهم على أداء واجباتهم الكاملة، فقد كان عمرو يُذَمِّر المسلمين، ويحثّهم على الثبات، فقال له رجل من اليمن: (إنّا لم نُخلَق من حجارة، ولا من حديد) وعمرو كان يريد رجاله في أداء واجباتهم حجارة وحديدًا في صلابتهم، لا يكلّون ولا يملّون.

وحين أراد رجاله أن يوقدوا نارًا في ليلة شاتية قاسية البرد، مَنعهم عمرو، وهدّد من يوقد النار بقذفه فيها، وكان ذلك في غزوة ذات السلاسل، على عهد النبي صلى الله عليه و سلم، وهذا دليل جديد على حب عمرو لرجاله، لأنه لو سمح لهم بإيقاد النار، لاكتشف عدوُّهُم قلَّتَهم، واستمكن مواضعهم، ولقضى عليهم بسهولة ويسر.

وقد كان عمرو يحبّ أخاه هشام بن العاص، حبًا عظيمًا، ويفضّله على نفسه، كما ذكرنا، وكان هشام يعمل بقيادة أخيه عمرو في معركة أَجْنَادَيْن، من معارك فتوح الشام، ولما انهزم الروم يوم أجنادين انتهوا إلى موضع لا يعبره إلا إنسان، فجعلت الروم تُقاتل عليه، وقد تقدّموه وعبروه، وتقدّم هشام فقاتل عليه، حتى قُتل، ووقع على تلك الثُّلْمة فسدّها، ولما انتهى المسلمون إليها هابوا أن يُوطئوه الخيلَ، فقال عمرو: (أيها الناس! إن الله قد استشهده، ورفع روحه، وإنما هو جُثَّة فأوطئوه الخيل)، ثم أوطأه هو، وتبعه الناس حتى قطعوه. ولما انتهت الهزيمة، ورجع المسلمون إلى العسكر، كرّ إليه عمرو، فجعل يجمع لحمه وأعضاءه، وعِظامه، ثم حمله في نَطْع فَوَارَاه.

لقد كان عمرو من أولئك القادة، الذين يبادلون رجالهم حُبًّا بحب، ولكن ليس على حساب الواجب، ولا تناقض بين المحبّة المتبادلة، والحرص على الواجب لدى القائد حقًّا ورجاله، فهما متلازمان، وعليهما تُبنى الثقة المتبادلة، التي لا تكون إلا بالمحبة المتبادلة، والعمل الدائب المتواصل من أجل إحراز النصر.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wadbashir.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 795
تاريخ التسجيل : 30/03/2012
العمر : 68
الموقع : wadbashir.2morpg.Com

 عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين Empty
مُساهمةموضوع: رد: عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين    عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين Emptyالجمعة يونيو 27, 2014 3:16 pm


16 ـ وكان لعمرو شخصية قوية جدًا، لكفاياته العقلية والخُلقية المتميزة، وكان شخصية من شخصيات العرب قبل الإسلام وبعده.
كان سفيرًا لقريش في الجاهلية إلى الحبشة، كما ذكرنا، وكان قائدًا من قادتهم، وكان من ذوي الرأي فيهم.
وبعد إسلام عمرو مباشرة قدّمه رسول الله صلى الله عليه و سلم، وكان عمرو يقول: (ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه و سلم، وبخالد بن الوليد أحدًا من أصحابه في حربه منذ أسلمتُ)، فكان من قادة النبي صلى الله عليه و سلم، ومن سفرائه وعمّاله، وكتّابه، ودعاته، كما كان من قادة أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، ومن قادة عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، رضي الله عنهما، ومن عمالهما على مصر، ومن عمّال معاوية بن أبي سفيان، وقادته حتى تُوفي عمرو بمصر، فكان يفرض شخصيته المرموقة، على الحكام والمحكومين، في الجاهلية والإسلام.

وحتى بعد أن عزله عثمان بن عفان عن مصر، لم يستطع تجاهل شخصيته الفذّة، فكان يستقدمه في المُلّمات، ويستشيره في أموره.

والحديث عن شخصية عمرو يطول، وإثبات أنه كان ذا شخصية قويــة جــدًا، لا مسوِّغ له، لأنه واضـح معروف مشهـــــور، والمعــروف لا يُعرَّف كما يقولون.

وكانت له قابلية بدنية فائقة، أعانته على تحمّل أعباء القتال في الصحراء، وفي المناطق الحارة، كمنطقة الخليج العربي، والمناطق المعتدلة، كبلاد الشام، ومصر، وليبيا، وفي مختلف الفصول، شتاءً وصيفًا.

واحتفظ بهذه القابلية، حتى أواخر عمره، ويبدو أنه كان صحيح البدن، يتمتع بالصحة والعافية، لا يعاني الأمراض إلا قليلاً. ولعل اهتمامه براحته حين يستقر، وابتعاده عن مواطن الأوبئة، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، واعتناءه بغذائه، وكسائه، ومسكنه، له دَخْلٌ في اعتدال صحته، وعافيته، وتخلّصه من الأمراض والأوبئة.

وكان له ماض ناصع مجيد: أبوه سيّد من سادات قريش، وهو ناب من أنياب العرب، خدم قومه قريشًا بكل طاقاته، المادية والمعنوية، في التجارة والسفارة، والسِّلم والحرب، وكان ذلك قبل إسلامه.

فلما أسلم، خدم الإسلام والمسلمين، خدمة لا ينافسه فيها كثير من أنداده، من القادة، والولاة، والسفراء، والنابهين، من المسلمين.

يكفي أن نذكر أن ماضيه المجيد في عهد النبي صلى الله عليه و سلم، جعله الوحيد من الصحابة الذي تولّى القيادةَ، والسفارةَ، والولايةَ، وجبايةَ الصدقات، والكتابةَ، للنبي صلى الله عليه و سلم، إذ من الصحابة من تولى منصبًا من تلك المناصب، أو منصبين، ولكن لم يتولها واحد منهم مجتمعة للنبي صلى الله عليه و سلم أبدًا.

ويكفي أن يكون قائدًا من قادة أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، ومن ولاة عمر، وعثمان، ومعاوية، وحسبه أن يقال عنه: إنه كان من ولاة عمر، وما كلّ أحد بقادر على تولّي قطر من أقطار المسلمين لعُمَر.

ويكفي أن يكون أحد قادة فتح أرض الشام بعامة، وفلسطين بخاصة، وفاتح مصر، وليبيا، وجزء من تونس.

ويكفي أن يكون له أثر في نشر الإسلام من الخليج العربي شرقًا إلى امتداد ليبيا على البحر المتوسط غربًا. ونشر العربية لغة في أرض الشام، ومصر، وشمال إفريقية.

إن ماضي عمرو ناصع مجيد، يضفي عليه مجدًا وشرفًا بغير حدود.

17 ـ تلك هي مجمل مزاياه القيادية، فإذا طبقنا أعماله العسكريه في حروبه وفق مبادئ الحرب، نجد أن عمرًا، طبق مبادئ الحرب كافة بكفاية واقتدار في معاركه كلها، مما كان له أثر حاسم في انتصاراته.

وأول مبادئ الحرب التي طبقها عمرو في حروبه، هو مبدأ: اختيار المقصد وإدامته.

فقد كان عمرو ماهرًا للغاية في تطبيق هذا المبدأ، بل يبدو أنه كان يفكّر بمقصده من معاركه مسبّقًا، وكأن هذا المقصد أمرٌ مدبّر لا دخل للارتجال أو للتفكير الفوري فيه، إلا في المعارك التعبوّية الصغرى. أما في المعارك الكبرى -وبخاصة السّوقِيّة منها- فكان مقصد عمرو واضحًا جليًا، أعده قبل مدة من الزمن، وعمل على إعداده، وبذل قصارى جهده لإخراجه من حيز التفكير النظري إلى ميدان التطبيق العملي.

كان مقصد النبي صلى الله عليه و سلم من سرية ذات السلاسل، التي تولّى قيادتها عمرو: صدّ جمع قُضاعة، الذين يريدون أن يهاجموا أطراف المدينة المنورة.

ولما قرب عمرو من القوم، بلغه أن لهم جمعًا غفيرًا، فاستمد رسول الله صلى الله عليه و سلم، لأنه أيقن أنه لن يستطيع تحقيق مقصد النبي صلى الله عليه و سلم من هذه السرية بقوته الراهنة.

وجاءه الرد بقيادة أبي عُبيدة بن الجراح، فأصرّ عمرو على توحيد القيادة، لتحقيق مقصد النبي صلى الله عليه و سلم من هذه السرية، لأهمية توحيد القيادة، وضرورة وجود قائد واحد، يدير معركة واحدة، على رأس قوة واحدة.

وعلى الرغم من حرص عمرو الشديد على الإمارة، إلا أن التفاتته البارعة إلى حصر القيادة بيده فقط، كانت ذات أهمية بالغة، لتحقيق المقصد المرسوم، لأن وجود قائديْن عل رأس قوة واحدة، يؤدي إلى الارتباك، والبلبلة، وضياع المسؤولية، وتفرّق الشمل، وبعثرة الجهود، فلا يتحقّق المقصد المطلوب كما ينبغي.

وكان مقصد أبي بكر الصديق، رضي الله عنه، من إرسال جيوشه وقادته إلى بلاد الشام، هو فتح هذه البلاد، وضمّها إلى الدولة الإسلامية الفتيّة، وذلك بتطهير بلاد الشام من الروم، لحماية الحدود الشمالية الغربية لبلاد المسلمين.

ولم يكن مقصد أبي بكر الصديق قابلاً للتحقيق، لو بقيت الجيوش الإسلامية متفرقة، فأشار عمرو على قادة المسلمين في أرض الشام بالاجتماع في اليرموك، وهو الذي أشار بتوحيد القيادة، فاجتمعت الجيوش الإسلامية، في اليرموك بإشارة عمرو، وتوحّدت القيادة في تلك المعركة الحاسمة، وبذلك حشد الجيوش الإسلامية بقيادة واحدة في موضع مناسب اختاره عمرو، فقال عمرو للمسلمين: (أبشروا، حُصرت والله الروم، وقلّ ما جاء محصور بخير)، وبذلك حقّق عمرو نصف النصر قبل نشوب القتال، لأنه جرّ الروم إلى منطقة قتالية بصالح المسلمين، لا بصالح الروم، وحشد في تلك المنطقة جيوش المسلمين كافة، وجعلها تعمل بقيادة موحدة.

ولما نشب القتال، أحرز المسلمون نصرًا عظيمًا على الروم، فتحقق مقصد أبي بكر الصديق، ومقصد قادة المسلمين الميدانيين.

وبدون شك، كان مقصد عمرو في فتوح الشام واضحًا جدًا، وكان يديم مقصده بطريقته الخاصة في القيادة: يقاتل بسيفه، ويقاتل بعقله، ويحاول أن يحصل على أكبر الأرباح بأقل الخسائر.

أما مقصده في فتوح مصر وليبيا، فقد كان مقصدًا صريحًا، فما ترك فرصة التقى عمر بن الخطاب بها، إلا فاتحه بفتح مصر، وأغراه بفتحها، حتى استطاع أن يحصل على موافقة عمر، فانطلق قُدمًا لوضع مقصده في الفتح موضع التنفيذ.

وما يقال عن فتح مصر، يقال عن فتح ليبيا أيضًا، فما زال بعمر حتى وافق على فتحها.

وكان مقصد عمرو أن يفتح إفريقية (تُونس) بعد فتح ليبيا، ولكن عمر رفض ما عرضه عليه عمرو من الإقدام على فتحها، فلما تُوفي عمر، وخلفه عثمان، حقّق عمرو ما كان يصبو إليه من فتح إفريقية، فبدأ بفتحها، ولكن عزله عن مصر، حال بينه، وبين إكمال ما يريد.

لقد كان عمرو ماهرًا في اختيار المقصد وإدامته.

18 ـ وكان يطبّق مبدأ: التَعرُّض، بل كان قائدًا تعرضيًا، لم يخض معركة دفاعية في حياته العسكرية الطويلة، في سنواتها العريضة، بنتائجها العميقة، بأثرها وتأثيرها.

ومن النادر أن نجد قائدًا، لم يخض في حياته العسكرية كلها معركة دفاعية واحدة، وكانت كل معاركه تعرّضية.

وكان يطبّق مبدأ المباغتة، والمباغتة أقوى مبادئ الحرب، وأبعدها أثرًا في الحرب، وتأثيرها المعنوي عظيم جدًا، وتأثيرها من الناحية النفسية يكمن فيما تحدثه من شلل في تفكير القائد الخصم، وفي قواته أيضًا.

لقد كان عمرو يسير الليل، ويكمن النهار، ليباغت عدوه، كما فعل في سرية ذات السلاسل، وغيرها من معاركه.

وكان لا يأذن لأصحابه بإيقاد النار ليلاً في الشتاء، لكي لا يطّلع عدوهم على قلتهم، فيستهين بهم، ويهاجمهم ليوقع فيهم الخسائر الفادحة، كما فعل في سرية ذات السلاسل، وفي غيرها من معاركه أيضًا، ليوهم العدو أن المسلمين في كثرة، فيؤثر في معنوياتهم، ويباغتهم بالهجوم عليهم، ويضطرهم على الفرار أو الاستسلام.

وكان عمرو يفرّق أصحابه، ليرى العدو أنهم أكثر مما هم عَدَدًا وعُددًا، كما فعل في معركة حصار حصن بابليون الحاسمة، ليزعزع معنويات العدو بإيهامه أن المسلمين في عدد ضخم من الرجال.

وكان يقوم باستطلاع شخصي لمقرّات قادة العدو، ليطّلع على نقاط الضعف فيهم، وفي قواتهم ومواضعهم، ويباغتهم من حيث لا يحتسبون.

ويُطلع العدو على استقامة المسلمين، وعدلهم، وتواضعهم، ليقول قائلهم: (رَأَيْنَا قَوْمًا الموتُ أَحَبُّ إلى' أَحَدِهِْ مِنَ الحياةِ، والتَّوَاضُعُ أَحَبُّ إليهم مِنَ الرِّفْعَةِ، ليسَ لأَحَدِهِم رَغْبَةٌ ولا نَهْمَةٌ، إنما جُلُوسُهُمْ على' التُّرَابِ، وأَكْلُهُمْ على رُكَبِهِمْ، وأَجِيرُهُمْ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وما يُعْرَفُ رَفِيعُهم مِن وَضِيعِهِم، ولا السيدُ منهم من العَبْدِ، وإذا حَضَرَتِ الصلاةُ لم يَتَخَلَّفْ عنها منهم أحد، يَغْسِلُون أطرافَهُم بالماء، ويَتَخَشَّعُون في صَلاتِهِم)، فقال عند ذلك المقوقس: (والذي يُحْلَفُ به، لو أن هؤلاءِ استقبلوا الجبالَ، لأزالوها، وما يَقْوَى على قتالِ هؤلاءِ أحد)، فيستسلم العدو للمسلمين، كما فعل القِبط، ويكونون عونًا لهم على عدوّهم المشترك: الروم.

وقد استطاع عمرو أن يزعزع معنويات عدوه في معارك كثيرة، بالمفاوضات الشخصية، أو بالمفاوضين الآخرين من المسلمين، فربح نصفَ المعركة قبل أن يخوضها، ثم ضرب ضربته في المكان المناسب، والزمان المناسب، فانهارت معنويات عدوه، وفرّ من استطاع الفرار، واستسلم الباقون للمسلمين.

وفي الوقت الذي استطاع عمرو أن يباغت عدوه في كل معركة خاضها، بالتأثير في المعنويات المعادية بخاصة، فإنه حَرَم عدوه من مباغتته في أية معركة خاضها، فلم يسجّل التاريخ العسكري لعمرو عليه أن العدو باغت رجاله، لأنه كان حذرًا غاية الحذر، متيقظًا غاية اليقظة، يحمي قواتــه بالمقدّمـــات والمؤخــرات والساقــات والمجنبــات، ولا يترك ثغرة يمكن أن يتسرّب منها العدو لضرب قواته بصورة مباغتة.

والمباغتة تكون إما بالمكان، بالهجوم من مكان لا يتوقعه العدو، أو تكون بالزمان، بالهجوم في زمان لا يتوقعه العدو، أو بالأسلوب، بالهجوم في أسلوب قتالي لا يعرفه العدو، أو لا يتوقعه.

وقد طبّق عمرو هذه الأساليب الثلاثة في المباغتة في حروبه.

فقد طبق المباغتة بالمكان في فتح طرابلس، بتسرب المسلمين إلى داخل المدينة، من مكان لا يتوقعه العدو، كما ذكرنا ذلك.

وطبّق المباغتة بالزمان في فتح مدينة صبراته الليبية، فقد هاجمها المسلمون في زمان لا يتوقعه أهلها، فلما ظفر بمدينة طرابلس جرّد خيلاً كثيفة من ليلته، وأمرهم بسرعة السير، فصبّحت خيله المدينة، وقد غفل أهلها، وفتحوا أبوابها لتَسْرح ماشيتهم، فدخلها المسلمون واحتوى عمرو ما فيها، وقد ذكرنا ذلك في الحديث عن فتح ليبيا.

وطبّق المباغتة بالأسلوب، بهجوم الفرسان السريع الخاطف، واندفاعهم بالعمق، والتغلغل بعيدًا في صفوف العدو، فمن المعروف أن الخيول العربية أسرع من خيول الروم، وأن الفارس العربي أخف حركة من الفارس الرومي، لخفّة تجهيزاته وأسلحته، وأمهر في فروسيته، وأقدر على استعمال السيف والرمح، يضاف إلى ذلك، حماسته الدينية في الجهاد، وشدة ضبطه وطاعته، والتزامه بالنظام. وهذه الحماسة، والضبط، والطاعة، والنظام، من أثر الإسلام على المجاهدين العرب، إذ لم يكن العرب كذلك قبل الإسلام، بلا مراء.

ومن المعلوم أن المباغتة أهم مبادئ الحرب على' الإطلاق.

19 ـ وكان عمرو يطبّق مبدأ: تحشيد القوة، وهو حشد أعظم قوة مادية ومعنوية، واستخدامها في الزمان والمكان المناسبين.

فقد قاد سرية ذات السلاسل، فلما قرب من قُضاعة بلغه أن لهم جمعًا غفيرًا، فاستمدّ رسولَ الله صلى الله عليه و سلم، فبعث إليه أبا عبيدة بن الجراح في مائتين، وعقد له لواءً، وبعث معه سُراة المهاجرين والأنصار، وأمره أن يلحق بعمرو، وأن يكونا جميعًا، ولا يختلفا، وبذلك استطاع عمرو حشد القوة المناسبة للواجب المناسب، فانتصر على قُضاعة، وأنجز واجب سريته كما ينبغي.

وارتدّت قُضاعة بعد التحاق النبي صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى، فعقد أبو بكر الصديق، رضي الله عنه لواءً لعمرو على جيش من جيوش المسلمين، وأمره بقتال قُضاعة، فسار عمرو في الطريق الذي سلكه في سرية ذات السلاسل، حتى وصل بلاد قُضاعة، فأعمل السيف في رقابهم، وغلبهم على أمرهم، لأن الجيش الذي تولّى قيادته كان متكامل الحشد، قادرًا على النهوض بأداء واجبه بنجاح.

وكانت جيوش المسلمين متفرقة في بلاد الشام، وكان كل جيش من تلك الجيوش بقيادة قائد من قادة المسلمين، فأشار عمرو على قادة المسلمين بالاجتماع في اليرموك، وتوحيد قيادتهم، لمواجهة الروم بجيوش موحدة، وقيادة موحدة، لإمكان إحراز النصر عليهم; لأن بقاء جيوش المسلمين متفرقة في بلاد الشام، يؤدي إلى أن تبقى ضعيفة تجاه جيش الروم الموحّد قوة وقيادة، وأن تقاتل جيوشُ الروم كُلَّ جيش من جيوش المسلمين على انفراد، دون أن يتعاون المسلمون على قتال عدوّهم، لتفرّق تلك الجيوش، ووجودها متباعدة، وبقيادات شتى.. فكان رأي عمرو باجتماع جيوش المسلمين في اليرموك، وتوحيد قيادتهم، مِمَّا أَدَّى' إلى استكمال تحشيد الجيش الإسلامي استعدادًا لخوض المعركة بقوات موحّدة، وقيادة موحدة، لا بقوات متفرّقة، وقيادات كثيرة.

وتحشيد القوة للمسلمين في اليرموك، مثال عملي رائع على تطبيق هذا المبدأ بشكل مثالي، يقود إلى النصر.

وهذا الحشد لجيوش المسلمين في موضع واحد، اختاره المسلمون لأنفسهم، ولم يختره عدوهم لهم، وتوحيد قيادتهم، واختيار موعد نشوب القتال دون أن يضطرهم عدوهم إلى نشوب القتال، كان بمشورة عمرو وتوجيهه، ويمكن أن يكون درسًا مهمًا جدًا من الدروس المستفادة، التي ينبغي على العسكريين المسلمين تعلّمها بصورة متقنة، وتطبيقها عمليًا في الحرب.

وهذا الدرس ينبغي أن يُعلّم في الكليات العسكرية، وكليات الأركان والقيادة، وجامعات الدراسات العسكرية العليا، فخير الدروس ما كان مستفادًا من معارك المسلمين، وتاريخهم المجيد، لأنه طُبِّق على أرضهم، وطبّقه أمثالهم من الرجال.

وفي فتح مصر، قاد عمرو في المعارك التمهيدية قبل معركة (بابليون) الحاسمة، جيشًا تعداده ثلاثة آلاف وخمسمائة رجل، وحاصر عمرو حصن بابليون بجيشه القليل عددًا، فكان أقل من أن يستطيع فتح هذا الحصن الحصين، فكتب إلى عمر بن الخطاب يستمده، فأمدّه بأربعة آلاف، على كل ألف رجل منهم رجل من الأبطال، وكتب إليه: (إني قد أمددتك بأربعة آلاف رجل، على كل ألف منهم رجل مقام الألف، الزّبير بن العوام، والمِقداد بن عمرو، وعُبــادة بن الصــامت، ومَسْلمَة بن مُخَلَّد، -وقــال آخـــــرون: بـــل خارجة بن حُذافة الرابـع، لا يعدّون مَسلمة- إن معك اثنى عشر ألفًا، ولا يُغلب اثنا عشر ألفًا من قِلة).

وفي رواية أخرى، أن عمر بن الخطاب أشفق على عمرو، فأرسل الزبير في أثره في اثنى عشر ألفًا، فشهد معه الفتح.

ومهما يكن من أمر، فإن عمرًا انتظر المدد، فحشد جيشه حول حصن بابليون بعد وصول المدد إليه، فأصبح جيشه قادرًا على فتح حصن بابليون، فحاصر الحصن حتى استسلم، فكانت معركة حصن بابليون معركة حاسمة، فتحت أبواب مصر للفاتحين المسلمين.

وكان عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قد دخل على عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فقال عمر: (كتبتُ إلى عمرو بن العاص، يسير إلى مصر من الشام). فقال عثمان: (يا أمير المؤمنين! إن عَمْرًا لَمُجَرَّأ، وفيه إقدام وحب للإمارة، وأخشى أن يخرج من غير ثقة ولا جماعة، فيعرّض المسلمين للهلكة، رجاء فرصة لا يَدري تكون أم لا).

كان جريئًا، مقدامًا، محبًا للإمارة بحق، ولكنّه لا يخرج من غير ثقة، ولا جماعة، بل يحسب لكل أمر حسابه، ويدخل في حسابه أسوأ الاحتمالات، ويتّخذ لكل أمر عدته، ولكل معضلة ما يفرِّجها.. ومن حساباته تطبيق مبدأ: تحشيد القوى، أو تحشيد القوة، تطبيقًا مثاليًا، دون أن يترك للمجازفة أي مجال.

20 ـ وكان يطبّق مبدأ: الاقتصاد بالمجهود، وهو استخدام أصغر القوات للحماية، أو لتحويل انتباه العدو إلى جهة أخرى، أو صدّ قوة معادية أكبر منها، على أن تكون القوات المستخدمة قادرة على النهوض بواجبها، وتحقيق الهدف من الواجب الذي أسند إليها.. والاقتصاد بالمجهود يدل على الاستخدام المتوازن للقوى، والتّصرف الحكيم بالمواد العسكرية، لغرض الحصول على التحشّد المؤثِّر في الزمان والمكان الحاسمين.

وليس مبدأ: الاقتصاد بالمجهود، مناقضًا لمبدأ: تحشيد القوة، بل هما متكاملان: الأول يحول دون التبذير بالقوة، بدون مسوِّغ، فهو حشد القوة الكافية للواجب المعين، دون إسراف ولا تبذير، ولا إفراط ولا تفريط، فهما حشد القوة المناسبة للواجب المناسب، في الزمان والمكان المناسبين.

وقد طبّق مبدأ: الاقتصاد بالمجهود في معاركه كافة عدا سرية ذات السلاسل على عهد النبي صلى الله عليه و سلم، وحصار حصن بابليون في فتوح مصر على عهد عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أمّا في معاركه الكثيرة الأخرى، في حرب الردة، وفتوح الشام، وفتوح مصر وليبيا، فاقتصر على القوات المتيسرة لديه، واستفاد من القوات المحلية المتيسرة أيضًا.

وكمثال على تطبيقه مبدأ: الاقتصاد بالمجهود، ما فعله بعد فتح حصن بابليون ، فإنّه وجّه قادته شمالاً، وغربًا ، وجنوبًا، لاستكمال فتح مصر بالقوات المتيسّرة لديه، فخاض قادته معارك استثمار الفوز، التي تكون اعتياديًا بعد المعركة الحاسمة، وهي معركة بابليون، واستكملوا فتح مصر، من الصَّعيد حتى الدلتا، ولم يبق غير الإسكندرية، فسار عمرو على رأس قوّاته لفتحها، وحقّق هدفه في الفتح، دون أن يكلّف الخليفة بقوات جديدة، فكان عمرو بحق مريحًا لقيادته العليا، لا يكلّفها ما تطيق ولا ما لا تطيق.

ولا نعلم أنه استمدّ الخليفة في فتح ليبيا، بل اكتفى بقواته المتيسّرة لديه، على الرغم من طول خطوط مواصلاته، وبُعد المسافة الشاسعة بين قاعدته المتقدّمة في الفسطاط، وبين طرابلس في ليبيا.

ويبدو أن ثقة عمرو العالية، بشجاعته وإقدامه، اختصر له الطريق في كثير من المواقف، لتحقيق أهدافه بسهولة ويسر، كاقتحامه مقرّات قادة الأعداء، كأنه رسول المسلمين، واقتحامه حصون الأعداء، مع قليل من جنده، كما اقتحم حصن الإسكندرية، مما عرّض نفسه لأعظم الأخطار، ومع ذلك فقد كان عمرو في قيادته، من الأمثلة الأُسوة في تطبيق مبدأ الاقتصاد بالمجهود.

21 ـ وكان عمرو، يطبّق مبدأ: الأمن، وهو من أهم مبادئ الحرب، لتوفير الحماية لقوّاته، ومواصلاتها، وقاية لها من مباغتة العدو لها، ومنعًا للعدو من الحصول على المعلومات عن قواته، والأرض التي يقاتل عليها، ومواطن الضعف والقوة في قواته، عددًا وعُددًا، وتنظيمًا وتسليحًا، وقيادة ومعنويات، ومعاقل وحصونًا.

فقد حرص على السُّرى ليلاً، والاختفاء نهارًا، كما فعل في مسير الاقتراب في سرية ذات السلاسل، كما حرص عل عدم إيقاد النار، وعدم المطاردة في السرية، حفاظًا على أمن رجاله.

وكان يُخرج المقدّمات، والمجنبات، والمؤخرات، والسّاقات، ويستخدم الدوريات الاستطلاعية، والدوريات القتالية، حفاظًا على أمن رجاله، وللحصول على المعلومات عن العدو، وحرمانه من الحصول على المعلومات عن قواته وأرضه.

تلك أمثلة على تطبيقه مبدأ: الأمن، على النّطاق التعبوي، لذلك لم يستطع عدوّه أبدًا مباغتة قواته، ولا الحصول على المعلومات الضرورية عنها.

أما تطبيقه هذا المبدأ على النّطاق السَّوْقِي، فمظهره فتح مصر لتأمين بلاد الشام من الجنوب، والجنوب الغربي، ومن الغرب باتجاه البحر، وفي فتح ليبيا لتأمين حدود مصر من الغرب، ومحاولته فتح النوبة، لتأمين مصر من الجنوب، وفتح إفريقية لتأمين حدود ليبيا الغربية.

وهكذا كان عمرو في تطبيقه مبدأ الأمن، لا يحمي قواته التي بقيادته وحسب، بل يحمي حدود الدولة الإسلامية على المدى القريب والبعيد.

22 ـ وكان عمرو يطبّق مبدأ: المرونة، وهو المبدأ الذي كان يُسمى قبل الحرب العالمية الثانية (1939م-1945م) بمبدأ: قابلية الحركة، فأصبح يُسمى بعد تلك الحرب مبدأ: المرونة، لأن قابلية الحركة تدل على الحركة المادية، وهي صفة نسبية، لا يُعبَّر عنها تعبيرًا صحيحًا، إلا بالمقارنة مع قابلية حركة العدو.

إنّ المرونة تعني أكثر من ذلك، إنها لا تتضمن قوة الحركة حسب، بل قوة العمل السريع كذلك، فعلى القائد أن يكون مرن الفكر، وعليه أن يطبق تلك المرونة عند وضع الخطط لحملته، وأن تكون خططه بشكل يمكّنه من أن يعدِّل سريعًا في عمليات قواته حين تضطّره الظروف، التي لم تكن بالحُسبان.

ولعلّ من نافلة القول إثبات ما كانت تتمتع به خطط عمرو التعبوية والسّوقية من مرونة، كما كانت المرونة تسيطر على تطبيق تلك الخطط في ميادين القتال. فقد كان عمرو ألمعيّ الذكاء، حاضر البديهة، واسع الأفق، عاقلاً، متزنًا، مجرِّبًا، قارئًا، كاتبًا.. ونتيجة لكل ذلك، كانت قراراته سريعة صحيحة، وخططه موفّقة سليمة.. والموقف يتبدّل بسرعة في القتال تارة، وببطء تارة أخرى، فكانت خطط عمرو مرنة جدًا، لتناسب المواقف المتبدّلة باستمرار في المعركة، لذلك كانت خططه ناجحة للغاية في مجال التطبيق العملي.

وقد كان يستفيد من الفرسان بما عرف عنهم من قابلية سريعة للحركة، واندفاع في تحمل الواجبات، التي تحتاج إلى سرعة الحركة لإنجازها، كما فعل بعد فتح طرابلس، حيث فتح صبراتة بسرعة الحركة كما ذكرنا.

23 ـ وكان يطبّق مبدأ التعاون، وهو توحيد جهود الطاقات القتالية; لبلوغ الغرض المطلوب من المعركة.

ولكن تعاون عمرو، كان يشمل نطاقًا أوسع من توحيد جهود المقاتلين، لإحراز النصر، فقد كان متعاونًا مع قيادته العليا، ومع القادة العامِّين من أنداده، ومع صنوف جيشه، ومع قادته المرؤوسين، ومع السكان المحليين أيضًا، لتحقيق هدفه الأول، وهو إحراز النصر، مع تحقيق أهدافه الأخرى في العلاقة الاجتماعية، والأخوة الدينية، والإفادة من القادرين على القتال محليًا، لدعم جيشه بالرجال، والقضايا الإدارية.

فقد كان عمرو متعاونًا مع قيادته العليا (الخليفة) تعاونًا وثيقًا، فكان يستشير الخليفة فيما يعترضه من معضلات، كما فعل باستشارة عمر بن الخطاب في أسرى منطقة الإسكندرية، فأمر عُمَرُ بردّهم، بعد أن يخيّرهم بين الإسلام وبين البقاء على دينهم، كما ذكرنا ذلك.. وكما فعل باستشارة عمر بن الخطاب في قسمة أرض مصر، فأمر عمر أن تبقى غير مقسمة، ويبقى ريعها للمسلمين كافة، لا لقسم منهم.. وكما استشاره في الإقدام على فتح إفريقية، فلم يوافق عمر على فتحها في حينه.

وكان عمرو متعاونًا مع القادة العامين من أمثاله، وأنداده، كأفضل ما يكون التعاون، فقد عقد أبو بكر الصديق لأبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وشُرحبيل بن حَسَنة، ويزيد بن أبي سفيان، ألوية لفتح بلاد الشام، وكان لكل قائد من أولئك القادة، قيادته المستقلة، على منطقته الخاصة به من بلاد الشام، وكان عمرو على فلسطين، فإذا اجتمع قائدان أو أكثر في منطقة من مناطق الفتح، كان القائد العام على الجميع هو قائد تلك المنطقة، فتعاون عمرو مع أشقائه القادة الآخرين، تعاونًا وثيقًا، بالرأي السديد، وبالحرب والقتال، كما تعاون مع أولئك القادة، وخالد بن الوليد في معركة اليرموك، تعاونًا وثيقًا، وكان هو صاحب فكرة اجتماع المسلمين في اليرموك، كما أسلفنا.

وكان يجعل بحكمته، وقيادته الفذة، التعاون بين صفوف جيشه وثيقًا متكاملاً، وكان من ثمرات هذا التعاون الوثيق، ما أحرزه المسلمون بقيادة عمرو من انتصارات متعاقبة شرقًا وغربًا.

وكان عمرو متعاونًا مع قادته المرؤوسين، فقد أرسل قادته إلى نواحي مصر بعد فتح حصن بابليون، ففتح كل قائد منهم المناطق التي وُكّل له فتحها، لأن عَمرًا كان يتعاون معهم، ويعاونهم بكلّ ما يحتاجون إليه، للنهوض بتنفيذ واجباتهم المرسومة.

وكان يتعاون مع السكان المحليين، كما فعل في سرية ذات السلاسل، إذ استعان بقسم من المسلمين في تلك المناطق، كما ذكرنا سابقًا.

وفي فتح مصر، عاونه المصريون، فكان القِبط الذين كانوا بالفَرما أعوانًا لعمرو، وعاونه المقوقس، كما عاونه القبط، حين خرج لفتح الإسكندرية، فقد خرج معه جماعة من رؤساء القِبط: أصلحوا للمسلمين الطرق، وأقاموا لهم الجسور والأسواق، وصارت لهم القبط أعوانًا على ما أرادوا من قتال الروم.

ولا يمكن أن نجد قائدًا في التاريخ العسكري القديم أو الحديث، تعاون مثل هذا التعاون الوثيق على أوسع نطاق، مع مَن فوقه، ومع مَن يساويه، ومع مرؤوسيه قادة وجنودًا، ومع السكان المحليين من عرب وعجم، ومسلمين وغير مسلمين، فقد عهدنا أكثر القادة، يكون متعاونًا مــع مَن فوقــه، ولا يكــون مع أنـداده ومرؤوسيـه.. ومنهـم مـن لا يتعاون مع من هو أعلى منه، ويتعــــاون مع أنـداده ومـــرؤوسيـــه.. وما أقلّ القادة الذين تعاونوا مع السكان المحليين.

ولكنه عمرو، في عقليته الراجحة، وكِياسته، وحصافته، ودهائه، وبُعد نظره، وهو قبل ذلك وبعد ذلك، آلِف مألوف، سريرته كعلانيته، وعلانيته كسريرته، يعرف حقوقه وواجباته، فيؤدي واجباته، ويطالب بحقوقه، لا يعتدي على أحد، ولا يرضى أن يعتدي عليه أحد، أو على غيره من الناس.

24 ـ وكان يطبق مبدأ: إدامة المعنويات، وهي الصفات التي تُميّز الرجال الملتزمين بالعقيدة الراسخة، والضبط المتين، بها تظهر الطاعة القائمة على الحب، وتبرز الشجاعة في القتال، والصبر على تحمّل المشاق، وتبرز المزايا، التي تجعل المقاتل مطيعًا، باسلاً، صبورًا.

وقد كان رجال عمرو من الصحابة والتابعين، من القرن الأول الهجري، خير القرون على الإطلاق، المتميّز بالإيمان الراسخ، والجهاد في سبيل الله، والتضحية، والفداء.

حاصر عمرو حصن بابليون، فلما أبطأ الفتح عليــه، قــال الزبيـــر ابن العوام: (إني أهب نفسي لله، أرجو أن يفتح الله بذلك على' المسلمين)، فوضع سُلّمًا إلى جانب الحصن، ثم صعد، وأمرهم إذا سمعوا تكبيره، أن يجيبوه جميعًا، فما شعر المسلمون إلا والزبير على رأس الحصن يكبّر، ومعه السيف، وتحامل الناس على السُّلم، حتى نهاهم عمرو خوفًا من أن ينكسر، ولما اقتحم الزبير، وتبعه مَن تبعه، وكبّر وكبّر مَن معه، وأجابهم المسلمون من خارج الحصن، لم يشك أهل الحصن أن المسلمين قد اقتحموا الحصن جميعًا، فهربوا. وعمد الزبير وأصحابه إلى باب الحصن، ففتحوه، واقتحم المسلمون الحصن.

ولما حصر المسلمون حصن بابليون، كان عُبادة بن الصامت في ناحية يُصلّي وفرسه عنده، فرآه قوم من الروم، فخرجوا إليه، ولما دَنوا منه سلّم من صلاته، ووثب على فرسه، ثم حمل عليهم، ولمّا رأوه غير مُكَذِّب عنهم، ولّوا راجعين، وتبعهم، فجعلوا يلقون مناطقهم ومتاعهم ليشغلوه بذلك عن طلبهم، فلا يلتفت إليهم، حتى دخلوا الحصن، ورُمي عُبادة من فوق الحصن بالحجارة فرجع، ولم يَعْرض لشيء، مما كانوا طرحوا من متاعهم، حتى رجع إلى موضعه الذي كان به، فاستقبل الصلاة، وخرج الروم إلى متاعهم يجمعونه.

وقتل أحد المسلمين أحد جنود الروم، فلم يبال بالذي قتله، ولم يرغب في سَلَبه، ولم ينزعه عنه، وقد كان سَلَبه ثياب الديباج، وعصابة من الذهب، ولم يطلب دابته، ولم يلتفت إلى شيء من ذلك، وهو يرفع صوته بالقرآن الكريم، وانصرف حتى بلغ خيمته، فنزل عن فرسه، فربطه، وركز رمحه، ولم يُعْلِم أحدًا من أصحابه.

تلك نماذج من رجال عمرو الملتزمين بالعقيدة الراسخة، ومن الطبيعي أن رجاله ليسوا جميعًا كالزبير في شجاعته، وكعبادة وصاحبه في تعفّفهما، ولكن الأكثرية كذلك، والحكم للأكثرية على كل حال.

ولما حاصر المسلمون الإسكندرية، قال صاحب المقدّمة: (لا تعجلوا، حتى آمركم برأيي)، فلما فُتح الباب، دخل رجلان من رجاله، فقُتلا، فبكى صاحب المقدمة، فقيل له: لِمَ بكيتَ، وهما شهيدان ؟! فقال: (ليت أنهما شهيدان! لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: (لا يدخل الجنة عاص. وقد أمرتُ ألا يدخلوا حتى يأتيهم رأيي، فدخلوا بغير إذني).

وقد علمتَ أن أصحاب عمرو في سرية ذات السلاسل، جمعوا حطبًا، يريدون أن يصطلوا ليلاً، وهم شاتون، في أرض باردة، فمنعهم عمرو، فشقّ ذلك عليهم، حتى كلّمه في ذلك بعض المهاجرين، فغالظه، فقال عمرو: (أُمرتَ أن تسمعَ لي وتطيع)، قال: (فأفعل).

أما تحليّ عمرو بالضبط المتين، فقد ذكرناه في مكانه، وهو ضبط متين إلى أبعد الحدود.

وتلك نماذج من تحلي رجال عمرو بالضبط المتين، وهو ضبط يعتبر مفخرة من مفاخر جيش المسلمين في الصدر الأول للإسلام، بل يمكن اعتباره مثالاً رائعًا يُحتذى في كل زمان ومكان، في كل جيش قديم وحديث.

فلا عجب أن يصبر رجال عمرو على تحمّل المشاق صبرًا جميلاً، وأن يستقتلوا في ميادين القتال، فتنتصر الفئة القليلة على الفئة الكبيرة بإذن الله، ولكن بعد أن تساقط المجاهدون شهداء، فكانت نسبة الشهداء في مسيرة حروب الردة والفتوح من الصحابة ثمانين بالمائة، إذ كل خمسة منهم، مات واحد منهم حتف أنفه على فراشه، واستشهد أربعة منهم في ساحات الجهاد.

ولكنّ القول: بأن العقيدة الراسخة، والضبط المتين، ترفع معنويات المقاتلين، لا يُغني عن كل قول، فالواقع أن صفات القائد المتميزة في الشجاعة والإقدام والذكاء، والمزايا الأخرى التي ذكرناها، التي تجعل منه أسوة حسنة لرجاله، عامل مهم من عوامل رفع المعنويات وإدامتها.

كما أن القائد المجرِّب المنتصر، الذي يقود رجاله من نصر إلى نصر، عامل مهم جدًا من عوامل رفع المعنويات وإدامتها.

وقد ذكرنا مزايا قيادة عمرو المتميزة، التي تجعله مثالاً شخصيًا لرجاله، وبتلك المزايا كان قائدًا منتصرًا، لم يخسر معركة خاضها، وانتصر في كل معركة قادها. هذا القائد المتمكّن، يقود رجالاً من ذوي العقيدة الراسخة، والإيمان العميق، والضبط المتين، لذلك كان القائد يطبّق مبدأ إدامة المعنويات، في رجالٍ لا تزعزع معنوياتِهم الخطوبُ والأهوالُ.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wadbashir.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 795
تاريخ التسجيل : 30/03/2012
العمر : 68
الموقع : wadbashir.2morpg.Com

 عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين Empty
مُساهمةموضوع: رد: عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين    عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين Emptyالجمعة يونيو 27, 2014 3:18 pm


25 ـ وطبّق عمرو مبدأ: الأمور الإدارية، فمهما تكن خطة العمليات سليمة، ومرنة، ومتكاملة، وقابلة للتطبيق بنجاح، إلا أنها لا يمكن أن تُؤتي ثمارها المتوقعة، إلا إذا كانت مستندة على خطة إدارية سليمة، ومرنة، ومتكاملة، وقابلة للتطبيق أيضًا.

إن خطة العمليات والخطة الإدارية متكاملتان، بل هما خطة واحدة لا تختلفان إلا بالاسمين فقط، فلا قيمة لخطة حركات بدون خطة إدارية، ولا قيمة لخطة إدارية بدون خطة حركات.

وقد كان عمرو، يهتم بالخطة الإدارية، اهتمامه بخطة الحركات; الإعاشة، الإرواء، التجهيز، التسليح، الطبابة، الفَعَلة، النّقل، البريد، العطاء.

لقد كان أغنياء المسلمين، يؤمِّنون إعاشتهم، وإعاشة الفقراء من المسلمين، وكان المجاهدون يحملون زادهم معهم ما استطاعوا، ويتزوّدون محليًا أيضًا، وكان المقاتلون يستفيدون من المغانم في إعاشتهم، وكانت نساء المسلمين المرافقات لأزواجهن، يعملن في إعداد الطعام والتموين لذويهن، ولغيرهم أيضًا، أما الذي لا ترافقه امرأة، ولا تعاونه امرأة في إعداد طعامه، فإنه يُعد طعامه بنفسه، فقد كان الطعام بسيطًا، وإعداده سهلاً.

وقد اكتفى عمرو في فتوح الشام بتزويد رجاله بالأرزاق محليًا، أما في فتح مصر فلم يقتصر عمرو على الاكتفاء المحلي بالأرزاق، بل زادت أرزاقه على حاجة رجاله بعد فتح مصر، فأرسل قسمًا منها إلى مكة المكرمة، والمدينة المنورة، كما ذكرنا.

كما استطاع تزويد رجاله بالأرزاق في فتح ليبيا من الإنتاج الليبي، وكانت ليبيا غنية بالحبوب بخاصة.

أما العلف، فقد كان متيسرًا محلياً في بلاد الشام، ومصر، وليبيا، فلم يكن علف حيوانات الركوب والنقل بالنسبة لعمرو، يشكل مشكلة إدارية في مرحلة الفتوح، وربما عانى بعض الصعوبات في تأمين العلف محليًا في حرب الردة، لأنها كانت في منطقة صحراوية.

ولا نعلم أن رجال عمرو عانوا من نقص في الأرزاق، ولا عانت حيواناتهم من نقص في العلف، مما يدل على أن أمور الإعاشة كانت تجري بدون مشاكل تذكر.

كما أن الإرواء كان ميسورًا في مرحلة الفتوح الشامية والمصرية، ومن المحتمل أن جيش عمرو عانى صعوبات في الإرواء في قسم من مناطق ليبيا الصحراوية.

وكانت النساء ينهضن بواجب الإرواء. فهو واجب من واجباتهن في الحرب، كن يمارسنه قبل الإسلام، واستمروا على ممارسته بعد الإسلام أيضًا.

وكان تجهيز المقاتلين بالألبسة، يقع على القادرين منهم على الإنفاق، الذين يكسون أنفسهم، ويكسون الفقراء منهم، وكانت الغنائم توزع على الذين شهدوا القتال، ومن هذه الغنائم صنوف الأقمشة، والتجهيزات، والملابس، وعُدة الحيوانات، وكان عمرو يفرض في شروط الصلح بعض الألبسة للمقاتلين، كما فعل عندما فتح حصن بابليون: (فرض عليهم عمرو -على أهل الحصن وما حوله- لكل رجل من أصحابه دينارًا، وجُبّة وبُرُنسًا، وعمامة، وخُفَّين، وسألوه أن يأذن لهم أن يهيئوا له ولأصحابه -أي لعمرو وأصحابه- صنيعًا -أي طعامًا- ففعل).

أما تسليح المقاتلين، فكان على الأغنياء، الذين يسلّحون أنفسهم، ويسلّحــون مَن يستطيعــون تسليحــه من المقاتلين، والذيـن لا سلاح لهم، يُسلحون من مستودع السلاح التابع لبيت المال، كما أن الغنائم تكثِّف تسليح المسلمين المقاتلين في أعقاب كل نصر جديد.

وقد كان مع رجال عمرو في فتح مصر وليبيا، عدا الأسلحة التقليدية، وهي السيوف، والرماح، كان معهم المنجنيقات أيضًا، فقد ألحّ على حصن بابليون، ووضع عليه المنجنيق، واستخدم المنجنيق في حصار الإسكندرية، واستخدمه في أماكن أخرى.

لقد كان تسليح رجال عمرو جيّدًا.

أما الطبابة، فقد كان مع الجيش أطباء من العرب، يرثون هذه المهنة أبًا عن جد، ويعالجون الأمراض الطارئة والجرحى، وكان للنساء في تمريض الجرحى أثر كبير، وكانت المرأة تختصّ بمهنة تمريض الجرحى، فينقل الجريح إلى خيام في الخلف، ويعالج، ويسهر النساء عليه حتى يشفى.

وكان مع جيش عمرو الفَعَلة، لتمهيد الطرق، ونصب الجسور، وتأمين العبور، وقد استعان عمرو برؤساء القِبط في طريقه لفتح الإسكندرية، فأصلحوا له الطرق، وأقاموا له الجسور والأسواق.

وكان عمرو، يعتمد الخيل والجِمال، بالدرجة الأولى، والحمير والبغال، بالدرجة الثانية في تنقله من مرحلة إلى أخرى، وفي نقل مواده التموينية، وكان الموسرون من المسلمين يحملون أنفسهم، ويحملون مَن يقدرون على حمله ممّن لا يجدون ما يحملون أنفسهم عليه، ويُحمل الآخرون على إبل الصدقة، وخيل الصدقة، التي هي تابعة لبيت مال المسلمين. وقد حمل عمرو كل رجل من رجاله لم يجد ما يحمل نفسه عليه، فقد جاءه رجل حين خرج من الشام إلى مصر أصيب بجمل له، فأتى إلى عمرو يستحمله، فقال له عمرو: (تحمل مع صحابك حتى نبلغ أوائل العامر)، فلما بلغوا العريش جاءه، فأمر له بجملين.

وتتضاعف نقلية المسلمين بالغنائم، بعد كل معركة ينتصرون بها على عدوّهم، فلا تبقى لديهم مشاكل في نقليتهم على النّطاق الشخصي، لكل مقاتل من المقاتلين، وعلى النطاق الجماعي لكل جيش من جيوش المسلمين.

أما البريد، فكان بين عمرو والخليفة بصورة رئيسة في أيام حروب الردة، والفتوح، وكان قبل أن يلتحق النبي صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى، بين عمرو من جهة، والرسول القائد عليه الصلاة والسلام من جهة ثانية.

فقد بعث عمرو إلى النبي صلى الله عليه و سلم من سرية ذات السلاسل، وقبل أن يشتبك بقُضاعة وبَلِيّ، رسولاً هو رافع بن مَكِيث الجُهني، يخبره أن للمشركين جمعًا كثيرًا، ويستمده، كما ذكرنا ذلك عند الحديث على غزوة ذات السلاسل.

وبعث عمرو إلى عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بشيرًا بفتح الإسكندرية، فلما قدم على عمر أخبره بفتح الإسكندرية، فخرّ عمر ساجدًا، وقال: (الحمد لله).

وأنقل هنا حديث لقاء معاوية بن حُدَيج بعمر بن الخطاب، لطرافته، وفائدته، ولعله يكون عبرة لمن يعتبر من الحاكمين.

قال معاوية بن حُديج: (بعثني عمــرو بن العــاص إلى عمـــر ابن الخطاب، بفتح الإسكندرية، فقدمت المدينة في الظهيرة، فأنخت راحلتي بباب المسجد، فبينما أنا قاعد فيه، إذ خرجت جارية من منزل عمر بن الخطاب، فرأتني شاحبًا عليّ ثياب السفر، فأتتني، فقالت: مَن أنت ؟ فقلتُ: أنا معاوية بن حُدَيج، رسولُ عمرو بن العاص، فانصرفت عني، ثم أقبلت تشتدّ، أسمع حفيف إزارها على ساقها، حتى دنت مني فقالت: قُم فأجبْ، أمير المؤمنين يدعوك! فتبعتها، فلما دخلتُ; فإذا بعمر بن الخطاب، يتناول رداءه بإحدى يديه، ويشدّ إزاره بالأخرى'، فقال: ما عندك ؟ قلتُ: خير يا أمير المؤمنين! فتح الله الإسكندرية. فخرج معي إلى المسجد، فقال: للمؤذن: أذّن في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس، ثم قال لي: قُم فأخبر أصحابك! فقمتُ، فأخبرتهم. ثم صلّى، ودخل منزله، واستقبل القبلة، فدعا بدعوات، ثم جلس، فقال: يا جارية! هل من طعام ? فأتت بخبزٍ وزيتٍ، فقال: كُلْ! فأكلت على حياء، ثم قال: يا جارية! هل من تمر ؟ فأتت بتمر في طبق، فقال: كُل، فأكلت على حياء! ثم قال: ماذا قلتَ يا معاوية حين أتيـتَ المسجـــد ؟ قال: قلتُ: أميـر المؤمنين قائل، قــال: بئـس ما قلتَ -أو بئس ما ظننتَ- لئن نمتُ النهار لأضيّعنّ الرعية، ولئن نمتُ الليل لأضيّعنّ نفسي، فكيف بالنوم مع هَذَيْن يا معاوية ؟

ولا أريد أن أعلق على هذا الكلام، لئلا أُفسد ما فيه من معانٍ ساميةٍ، وروحانية رفيعة، ولكن لا بأس من أن أتمنى' أن يعتبر به الحكام، ففيه عِبَرٌ كثيرة، لمن يريد أن يعتبر قبل فوات الأوان.

وكان البريد حينذاك بسيطًا، غير معقد، وسيلته: البعير للمسافات البعيدة الشاسعة، والحصان للمسافات غير الشاسعة، وبخاصة التي تتسم بطابع أهمية السرعة في نقل الأخبار والمعلومات.

أما العطاء، فقد فرض عمر بن الخطاب العطاء من بيت مال المسلمين، لكل مسلم، ومسلمة، وصبي، من المسلمين، وذلك سنة خمس عشرة الهجرية، فبدأ بالعباس بن عبد المطلب عمّ النبي صلى الله عليه و سلم، ثم فرض لأهل بَدر خمسة آلاف، ثم فرض لمن بعد بَدْر إلى الحُديبية أربعة آلاف، أربعة آلاف، ثم فرض لمن بعد الحُديبية إلى أن أقلع أبو بكر عن أهل الردة، ثلاثة آلاف، ثلاثة آلاف، في ذلك مَن شهد الفتح، وقاتل عن أبي بكر، ومَن ولِيَ الأيام قبل القادسية، كل هؤلاء ثلاثة آلاف، ثلاثة آلاف، ثم فرض لأهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين، وفرض لأهل البلاء النازع منهم، ألفين وخمسمائة، ألفين وخمسمائة، وفرض لمن بعد القادسية واليرموك، ألفًا، ألفًا، ثم جعل مَن بقي من المسلمين طبقات، ففرض لقسم منهم خمسمائة، خمسمائة، ومنهم ثلاثمائة، ثلاثمائة، ومنهم مائتين وخمسين، مائتين وخمسين، ومنهم مائتين، مائتين، وسوّى كل طبقة في العطاء، قويّهم وضعيفهم، وعربيهم وعجميهم.

وألحق بأهل بدر أربعة من غير أهلها: الحسن، والحسين، وأبا ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وكان فرض للعباس خمسة وعشرين ألفًا، وقيل اثني عشر ألفًا، وأعطى نساء النبي صلى الله عليه و سلم، عشرة آلاف، عشرة آلاف، وفضّل عائشة بألفين لمحبة رسول الله صلى الله عليه و سلم إياها، فلم تأخذ، وجعل نساء أهل بدر في خمسمائة، خمسمائة، ونساء مَن بعدهم إلى الحُديبية على أربعمائة، أربعمائة، ونساء مَن بعد ذلك إلى الأيام، ثلاثمائة، ثلاثمائة، ونساء أهل القادسية مائتين، مائتين،، ثم سوّى بين النساء بعد ذلك، وجعل الصبيان سواء على مائة، مائة، وقال عمر قبل موته: (لقد هممتُ أن أجعل العطاء أربعة آلاف، أربعة آلاف، ألفاً يجعلها الرجل في أهله، وألفًا يزوّدها معه، وألفًا يتجهّز بها، وألفًا يترفّق بها)، فمات قبل أن يفعل.

والمبالغ المذكورة بالدراهم، يوم كانت الشاة بنصف درهم، ويُعطى' العطاء سنويًا من بيت المال.. وَدَوَّن عمر بن الخطاب الديوان، الذي يضمّ أسماء المستحقين للعطاء من المسلمين، ومقدار استحقاقهم، والجهة المسؤولة عن دفع العطاء لهم، ومكان الدفع الذي يكون اعتياديًا في البلد الذي يعيش فيه المسلم.

والعطاء هو الراتب، كما يُطلق عليه في العراق، والمرتّب كما يطلق عليه في مصر، ولكن العطاء يدفع لمستحقه سنويًا، والراتب أو المرتّب يدفع لمستحقه شهريًا.

وقد كان عمرو يدفع عطاء رجاله من بيت مال المسلمين، فيعيش به المقاتل، ويعيش به أهله، أسوة بالمسلمين جميعًا.

ولكن المقاتل له مورد آخر غير العطاء، فهو يأخذ نصيبه من الغنائم: سهم للراجل، وسهمان للفَرَس، أي أن الراجل يتقاضى سهمًا واحدًا، بينما يتقاضى الفارس ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه.

وللمقاتل أيضًا سَلَبُ مَنْ يقتله من الأعداء: سلاحه، وتجهيزاته، ورَكوبه، وكان الذين يقتلون رجــــلاً مــن الأعــــداء يستحـوذون علـى ما خَلفه في ساحة المعركة، ويتصرفون به بيعًا وشراء.

وكان عمرو، يطبّق تعاليم العطاء، والغنائم، والسَّلَب، وكانت موارد بيت مال المسلمين في مصر، تغطي تكاليف العطاء، وتفيض عنه، فيرسل عمرو ما يفيض من الأموال إلى عاصمة الدولة الإسلامية: المدينة المنورة.

أما عطاء عمرو، فقد جعله عمر بن الخطاب مائتي دينار، كما ذكرنا، إذ كتب إلى عمرو: (انظر مَنْ كَان قِبَلكَ، ممن بايع النبي صلى الله عليه و سلم تحت الشجرة، فَأتِمَّ له مائتي دينار، وأتِمَّ لنفسك بإمارتك مائتي دينار، ولخارجة بن حُذَافة بشجاعته، ولقيس بن العاص بضيافته).

وقد تكرّر ذكر النساء في النهوض بالأمور الإدارية أيام الحرب، إذ يكون مجمل واجبهن في القتال: تموين المقاتلين، والعناية بالمرضى والجرحى، بعد نقلهم من الميدان إلى الخطوط الخلفية، والمشاركة بالقتال إن حَزَبَ الأمر، وأملت الضرورة القصوى ذلك.

وفي صحيح البخاري، (باب غزو المرأة في البحر)، أن ابنة مِلْحان تزوجت عُبادة بن الصامت، فركبت البحر مع بنت قَرَظة.

وانظر باب: (حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه)، وفيه عن عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه و سلم، كان إذا أراد أن يخرج، أقرع بين نسائه، فأيتهنّ يخرج سهمها، خرج بها النبي صلى الله عليه و سلم، فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجت مع الني صلى الله عليه و سلم بعد ما أُنزل الحجاب).

وانظر: (باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال)، وفيه عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال: (لما كان يوم أحد انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه و سلم، ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم، وإنهما لمشمرتان، أرى خَدَمَ سوقهما تَنْقُزان القِرَب). وقال غيره: (تنقلان القِرَب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم). وانظر أيضًا: (باب حمل النساء القِراب إلى الغزو).

وانظر: (باب مداوة النساء الجرحى في الغزو)، وفيه عن الرُّبَيِّع بنت مُعَوَّذ، قالت: (كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم، نسقي، ونداوي الجرحى، ونردّ القتلى).

وانظر: (باب ردّ النساء الجرحى والقتلى)، وفيه عن الرُّبَيِّــــــــع بنت مُعَوَّذ، قالت: (كنّا نغزو مع النبي صلى الله عليه و سلم، فنسقي القوم، ونخدمهم، ونردّ القتلى والجرحى إلى المدينة).

قال الفقهاء، رحمهم الله: إن الجهاد فرض كفاية، ولا يجب على أصحاب الأعذار، لأعذارهم، ولا يجب على المرأة، لأنها مشغولة بحق زوجها، وحق العبد مُقدّم على حق الله، ويدلّ هذا على أن الزوج إذا أذنَ لامرأته أن تخرج مجاهدة، أو أخذها معه في الجهاد، لا يكون عليه ولا عليها من بأسٍ في ذلك.. ويدلّ ذلك أيضًا على أن المرأة، إذا لم تكن ذات زوج تشتغل بحقه، فهي والرجّل في وجوب الجهاد سواء... وهذا كله إذا لم يهجم العدو، فإذا هجم العدو، وجب على جميع الناس أن يخرجوا، للدفاع عن الحوزة.

وكان عمرو قد أخرج امرأته رَيْطة أم عبد الله بن عمرو بن العاص في حركته من الفسطاط إلى الإسكندرية، لفتح الإسكندرية، وكانت معه في حصار الإسكندرية، فلما تحرّج موقف المسلمين، وأصبح الموقف خطيرًا، قال لعمروٍ أحدُ رجاله محذِّرًا: (إنّ العدو قد غشوك، ونحن نخاف على رائطة)، يريد امرأته رَيْطة. فقال عمرو: (إذن تجدون رياطًا كثيرة)، يريد أنه سيثبت مهما يكلّفه الأمر من تضحيات.

وقُبيل حصار الإسكندرية، خاض عمرو معركة الكِرْيَوْن التي مر ذكرها، وكان عبد الله بن عمرو بن العاص على المقدّمة، فأصابت عبد الله جراحات كثيرة، فصلّى عمرو برجاله يومئذ صلاة الخوف: بكل طائفة ركعة وسجدتين، فلابدّ أن ريطة أم عبد الله مرّضته، وداوت جروحه، ورعته حق رعايته.

ومن الواضح أن قسمًا من رجال عمرو رافقتهم نساؤهم، فنهضن بواجباتهن الإدارية، كما نهضت زوج القائد عمرو بتلك الواجبات.

26 ـ إنّ عمرو كان يطبق مبادئ الحرب بكفاية، دون أن يتعلّمها في المدارس العسكرية، والمعاهد، والكليات، بل تعلّمها من تجاربه في الحياة، إذ لم تكن في أيامه، وفي محيطه مدارس عسكرية، ومعاهد، وكليات، تُلقِّن مبادئ الحرب، والعلوم، والفنون العسكرية بعامة، فعلّمته الحياة ما لم تعلّمه المدارس، والمعاهد، والكليات.

ولكنّ عمرًا لم يقتصر على مزايا القيادة، وصفاتها، وعلى تطبيق مبادئ الحرب بكفاية، بل كان يتسم بمزايا قيادية إضافية، من النادر أن يتسم بها القادة الآخرون، إلا في عدد محدود من القادة، على رأسهم الرسول القائد، عليه الصلاة والسلام، وعدد محدود من قادة الفتح الإسلامي في القرن الأول الهجري، وعدد محدود من قادة المسلمين في القرون الأخرى، وعلى رأسهم صلاح الدين الأيوبي.

أول هذه المزايا هي: المساواة، فقد كان عمرو يساوي نفسه بغيره، ويساوي غيره بنفسه، لا فرق بين المسلمين، فهم سواسية، كأسنان المشط، وقد تسرّب عمرو أكثر من مرة إلى مقرات قادة أعدائه، أحصى المؤرخون منها ثلاث مرات، باعتباره أحد المسلمين، أو باعتباره رسول قائدهم، ولكن فطنة أولئك القادة جعلتهم يشكّون أنه عمرو قائد المسلمين، وليس رسول عمرو أو أحد المسلمين، وكان مبعث شكِّهم رجاحة عقله، وحصافته، ومنطقه السليم، ولكنهم لم يقطعوا الشك باليقين، لذلك استطاع عمرو بدهائه التملّص منهم، والتخلص من خطر عظيم، ولو أنهم أيقنوا أنه عمرو، لَمَا تردّدوا في قتله لحظة واحدة، لأنه كان عليهم وحده أخطر من جيش كامل، إلا أنهم شكّوا، مما يدل على أن الغريب عن جيش المسلمين كان لا يفرِّق بين الأمير والأجير، والكبير والصغير، والغني والفقير، فكلهم سواء في المساواة المطلقة مظهرًا.

وفي أيام حصار حصن بابليون، كانت الرسل تمشي بين الطرفين: عمرو والمقوقس، وأتت رسل المقوقس مقرّ عمرو، فحبسهم يومين وليلتين، حتى خاف عليهم المقوقس، فقال لأصحابه: (أترون أنهم يقتلون الرسل، ويحبسونهم، ويستحلون ذلك في دينهم ؟) فأراد عمرو أن يَروا حال المسلمين. فلما جاءت رسل المقوقس إليه، قال لهم: (كيف رأيتموهم ؟) فكان من جوابهم: (.. وأجيرهم كواحد منهم، وما يُعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد).

إن مبدأ المساواة، كان مطبقًا في مجتمع عمرو أيام السلام، أما أيام الحروب، فكان عمرو يستأثر بالأخطار، ويؤثر رجاله بالأمن، وقد أنصف قومه مَن قدر على الدَّعة والرخاء، فاختار المشقة والخطر، ليحمي قومه، ويصدّ عنهم الأعداء.

27 ـ والمزية الثانية: هي مزية الاستشارة، فقد كان عمرو يستشير أصحابه في كل المواقف الصعبة، كما كان يستشيره رؤساؤه المباشرون، وغيرهم من الناس.

وقد رأيت استشارة عمر بن الخطاب لعمرو في ركوب البحر، وجواب عمرو على استشارة عمر، وامتناع عمر عن ركوب البحر نتيجة لمشورة عمرو.

ورأيت استشارة عثمان بن عفان لعمرو في الاضطرابات الداخلية، مع أن عَمْرًا يومها كان رجلاً من رجال المسلمين، لا سلطة له على أحد، بعد عزله عن مصر.

ورأيت استشارة معاوية بن أبي سفيان لعمرو في كثير من المعضلات التي عاناها في السلم والحرب.

ورأيت استشارة قادة المسلمين في بلاد الشام لعمرو في مجابهة الروم بعد اجتماعهم، فأشار عمرو على قادة المسلمين بالاجتماع في (اليرموك)، فكان ما أراد عمرو.

أما عن استشارة عمرو لغيره، فقد رأيت استشارته لأصحابه في الصلح والجزية، بين المسلمين وبين المقوقس، وبعد المناقشة اجتمعوا على عهد بين المسلمين وبين المصريين.

واستشار مَسلْمة بن مُخَلَّد الأنصاري في قتال حماة الإسكندرية لفتحها، فأشار عليه مَسلمة بعبادة بن الصامت، لتولي قيادة فتح الإسكندية، ففعل عمرو.

واستشارات عمرو لغيره كثيرة جدًا، اقتصرنا على ذكر نماذج منها.

وقد استشار عمرو في السبايا والأسرى عمر بن الخطاب، واستشاره في تقسيم الأرض المفتوحة على الفاتحين، كما سبق ذكره من قَبْل، كما استشاره بكثير من القضايا الأخرى.

لقد كان عمرو يستشيره رؤساؤه من الخلفاء، وزملاؤه من القادة، وغيرهم من الناس، فكان لا يبخل برأيه الرّصين على أحد.

وكان يستشير رؤساءه من الخلفاء، وزملاءه من القادة، وغيرهم من الناس، فيعمل بمشورتهم ما استطاع.

ولم يكن يتحيّز لرأيه، ولا يتعصّب لفكره، بل كان يحاول الأخذ بكلِّ رأي راجح، مهما يكن مصدره، ومكانة صاحبه الاجتماعية.

لقد كان يتقن فن الاستشارة، وهو فنّ لا يتقنه إلا ذوو العقول والأحلام.

28 ـ والمزية الثالثة والأخيرة من مزايا عمرو القيادية، الأسلوب القتالي المتميّز، الذي استخدمه عمرو في حروبه، فهو لا يشابه أسلوب مَن قبله من القادة، ولا أسلوب مَن عاصره من القادة، ولا أسلوب مَن جاء بعده من القادة.

هذا الأسلوب القتالي المتميّز الفريد، الذي اختصّ به عمرو دون سواه، أو ركّز عليه في عملياته الحربية كافة أكثر من غيره من القادة، حتى يمكن أن نطلق عليه: الأسلوب العَمْرِي في القتال، يتلخّص في: استعمال سلاح العقل أولاً، واستعمال السلاح ثانيًا، بمعنى: أن سلاح العقل يجب أن يعمل عمله في العدو أولاً، فإذا انتصر هذا السلاح بدون الأسلحة الأخرى، فذلك هو المطلوب، وإلا أكملت الأسلحة الحربية عمل سلاح العقل، لإحراز النصر بالسلاحين معًا، سلاح العقل أولاً، والسلاح التقليدي ثانيًا.

وكان عمرو، يصــول بســلاح العقــل، في كل معركـــة خاضهــا، بما يناسبها من تعبية، تفيد رجاله وتوحّدهم، وتضاعف من قوتهم، وترفع من معنوياتهم، وتضرّ عدوه، وتفرّقهم، وتقلّل من قوتهم، وتزعزع معنوياتهم، فيكون لرجاله بفضل سلاح العقل الغُنْم دومًا، ويقع على عدوّه -بتأثير هذا السلاح فيه- الغُرْم أبدًا.

وكان عمرو، أدهى من أن يستخدم سلاح العقل في فراغ، بل كان يستخدمه في إيجاد حقيقة راهنة، واستغلالها، وتعميق أثرها وتأثيرها، ثم توجيهها الوجهة التي يريد لمصلحة المسلمين ومصلحة الفتوح، ومصلحة فئته أيضًا، كما فعل في استعمال سلاح العقل لمصلحة فئته في الفتنة الكبرى.

قبل سرية ذات السلاسل، استغل عمرو قرابته لبني بَلِيّ، إحدى القبائل المستهدفة، لأنهم تجمّعوا وقُضاعة، يريدون أن يدنوا إلى أطراف النبيصلى الله عليه و سلم، وكانت أم العاص والد عمرو من بَلِيّ، فكان بنو بَلي من أخوال عمرو، واتّصل ببني بَليّ، واستثار فيهم حميتهم القبلية، وصلة القرابة به، واستفاد من المعلومات التي نقلوها له عن تجمّعات قُضاعة قبل نشوب القتال، فعلم أنه لا يقدر عليهم بقواته الراهنة، فاستمد النبي صلى الله عليه و سلم فلما جاءه المدد، تعرّض بقضاعة في الوقت والمكان المناسبيْن، فأدى ذلك إلى انتصاره.. وكان من أسباب النصر: حصوله على المعلومات المبكّرة عن عدوِّه، وحِرْص بَليّ على معاونته ونصره، وعدم حرصها على معاونة قضاعة ونصرها، وكان لسلاح العقل ،الذي سخّره عمرو قبل نشوب القتال، وفي أثنائه، أثر حاسم في تسخير بليّ، لمعاونته ماديًا ومعنويًا.

وفي حرب الرّدة، كان ميدان عمليات عمرو قُضاعة وبَلي أيضًا، وهو ميدان عمليات سرية ذات السلاسل، فاستغلّ عمرو بسلاح العقل، الذين بقوا على إسلامهم في المنطقة، كما استغل المتردِّدين، الذين حاروا بين الإسلام والرّدة، كما استغلّ المتفرّجين، الذي لا يهمّهم من أمر الحرب شيء، هذا بالإضافة إلى استغلاله أخواله بني بَليّ، واستفادته من تجربته المستفيضة في سرية ذات السلاسل، فقد عرف تلك المنطقة معرفة تفصيلية دقيقة، وسخّر تلك التجرية الثمينة في حربه الجديدة.

استغلّ الذين ثبتوا على الإسلام، فضمّهم إلى صفوف رجاله، واستفاد من خبرتهم المفصّلة بالمنطقة والمرتدين.

واستغل المتردّدين الحائرين بين الإسلام والرّدة، فأقنعهم بالثبات على الإسلام لمصلحتهم الدنيوية والأخروية، وخوّفهم من نتائج ردّتهم على مصيرهم، ومصير ما يملكون، فاستمال المتردّدين وضمّهم إلى صفوف رجاله، واستفاد من خبرتهم العملية المفصّلة بالمنطقة والمرتدين.

واستغلّ المتفرّجين، وأقنعهم بفوائد انحيازهم إلى المسلمين لحاضرهم ومستقبلهم، ودينهم ودنياهم، فانحاز أكثرهم إلى صفوف رجاله، واستفاد من معلوماتهم المفصلة عن الأرض والعدو.

وكان له بنو بَليّ أخواله، كما كانوا له في سرية ذات السلاسل، فما قصّروا في إعانته وعونه في شيء، وكانوا عند حسن ظنه بهم.

وهكذا ربح بسلاح العقل نصف المعركة، قبل أن ينشب القتال، فلما نشب أحرز النصر بسهولة ويسر، لأنه فرّق عدوه وأضعفه، ووحّد رجاله وقوّاهم.

وفي معارك فتوح الشام، استفاد عمرو من خبرته بطبيعة أرض الشام، وبقسم من الرهبان، والتجار، والعرب الغساسنة من سكانها، نتيجة لرحلاته المتكررة إلى بلاد الشام في تجارته.

واستغلّ خبرته بطبيعة أرض الشام، بمشورته لاجتماع المسلمين باليرموك، كما استغلّ خبرته بطبيعة الأرض في معاركه الأخرى في فتوح الشام.

واستغلّ معرفته بقسم من الرهبان، والتجار، والعرب الغساسنة في الحصول على المعلومات منهم عن الروم: قيادتهم، ونيّاتهم، وعددهم...الخ.

ولكن استغلاله للعرب الغساسنة من أهل الشام، كان أكثر أثرًا، وأبعد تأثيرًا، فقد ذكّرهم أن عزّ الإسلام، عز للعرب كافة في كل مكان، وأنهم إذا أسلموا، كان لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، أما إذا بقوا على دينهم، فلأهل الذمة في الإسلام مكان عظيم، ولأهل الكتاب مكانة عظيمة، ولا إكراه في الدين.

وأشاع ما جاء به الإسلام من العدل المطلق، والمسلمون والروم ليسوا في العدل سواء، فلا ظلم في الإسلام.

وقارن بين الضرائب التي يتقاضاها الروم، والجزية التي يتقاضاها المسلمون من الذين يحافظون على دينهم، ولا يعتنقون الإسلام، والفرق المادي بين الضرائب الرومية والجزية الإسلامية فرق جسيم.

وقد أدّى قبول المسلمين خوض المعركة في أرض تناسبهم -هي أرض اليرموك- ولا تناسب عدوّهم، إلى تهيئة سبب مهم جدًا من أسباب إحراز النصر.

وأدى اجتماع المسلمين في مكان واحد، بقيادة واحدة في اليرموك، إلى حشد قوّتهم، وحرمان عدوّهم من ضرب جيوشهم على انفراد، ليسهل عليه التغلب عليها واحدة بعد أخرى، ويزدردها لقمة بعد لقمة.

وأدّى حصوله على المعلومات المفصّلة عن العدو والأرض، إلى وضع خطة متكاملة لهزيمة العدو في المكان والزمان المناسبين.

وأدّى استثارته الرّحم العربي بين العرب المسلمين القادمين من الصحراء، والعرب غير المسلمين في بلاد الشام، إلى أن عرب الشام، لم يقاتلوا عرب الجزيرة، كما ينبغي، ولم يؤيّدوا حلفاءهم الروم كما يجب، وقاتل مَن قاتل منهم خوفًا من العقاب، لا قيامًا بالواجب، وشتّان بين مَن يقاتل خوفًا من العقاب، ومَن يقاتل للقيام بالواجب.

وأدّى تطلّع المسحوقين من أهل البلاد إلى عدل المسلمين، إلى عدم تعاونهم مع الرّوم، أو وقوفهم على الحياد، وكانوا على كل حال، قلوبهم مع المسلمين، يتمنّون أن ينقذوهم من ظلم الروم إلى عدل المسلمين.

وأدى تطلّع أهل البلاد المحكومين بالاستعباد الروميّ إلى تخفيف الضرائب الثقيلة عن كاهلهم بالفتح الإسلامي، إلى اعتبار الفتح إنقاذًا، واعتبار المسلمين منقذين.. والناحية المادية تؤثر في المحكومين، وتجعلهم يميلون ميلاً كاسحًا إلى مَن يفيدهم ماديًا، بتخفيف الضرائب عن كواهلهم.

ذلك بعض ثمرات سلاح العقل، الذي كان يشهره عمرو قائدًا في فتح أرض الشام.

وفي معارك فتوح مصر وليبيا، كانت خبرة عمرو بقتال الروم، قد تضاعفت بعد انتصاره عليهم في معارك عدّة من معارك فتوح الشام، فاستغل هذه الخبرة، في معاركه الجديدة، في فتوح مصر بخاصة، وفتوح ليبيا بعامة.

وكان عمرو قد زار مصر في الجاهلية تاجرًا، فتعرّف على طبيعتها، وقسم من أهلها، كما لمس تذمّر القِبط من حكامهم الرّوم لفداحة ضرائبهم المفروضة على المصريين أولاً، ولتردّي الرّوم المستعبِدين، بظلم المصريين المُستعبَدين، وتذمّر المصريين من هذا الظلم ثانيًا، والتناقض المذهبي بين الروم من جهة، والقِبط من جهة أخرى ثالثًا وأخيرًا، لذلك استقر في ذهن عمرو أن بالإمكان فتح مصر بسهولة ويسر نسبيًا.

واستغلّ عمرو خبرته القديمة بطبيعة مصر، ومواقعها، ومواطن قوتها، ومواطن ضعفها، فكانت لهذه الخبرة فوائد لا تُقدّر بثمن في حربه للروم على أرض مصر الطيبة.

واستغلّ معرفته لقسم من سكان مصر من التجار وغيرهم، فحصل منهم على معلومات تفصيلية عن الروم عدو المسلمين، وعدو المصريين المشترك.

وقارن بين الجزية التي يفرضها المسلمون على المصريين، الذين يبقون على دينهم، وبين ضرائب الروم المختلفة على المصريين، فأظهرت تلك المقارنة أن ضرائب الروم أضعاف جزية المسلمين.

ولا جزية على الذين يعتنقون الإسلام، بل يصبحون جزءًا من مجتمع الأخوة الإسلامي، لا فرق بين مسلم وآخر في الواجبات والحقوق.

وأبرز عمرو عدل الإسلام، فهو يأمر بالعدل، وينهى عن الظلم، ولا يرضى في حال من الأحوال عن الظلم والظالمين.

وعمّق التناقض المذهبي بين الروم من جهة، والأقباط من جهة أخرى، ومنح الحريّة المطلقة لرئيس القبط الديني، الذي كان مطاردًا من الروم، ومختفيًا عن الأنظار، كما منح المصريين الحرية الدينية المطلقة أيضًا.

وأصبح المصريون يُعلِّلون أنفسهم بالتخلص من ضرائب الروم الفادحة، التي أثقلت كواهلهم، ويعلّلون أنفسهم بالتخلص من ظلم الروم، الذي شمل السكان جميعًا بدون استثناء، ويعلّلون أنفسهم بالتخلص من الإكراه الديني، والتمتع بالحرية الدينية المطلقة، فاعتبر القبط قدوم المسلمين لفتح مصر إنقاذًا لهم، واعتبروا المسلمين بحق لهم منقذين، لذلك كانوا مع المسلمين الفاتحين بقلوبهم وعاطفتهم، وعاونوهم في الفتح وتعاونــوا معهم، ولم يعــاونوا الـــروم إلا مكـــرهين لا راغبين، ومضطرين لا مختارين، وموظفين لا متطوعين.

لقد استعمل عمرو أسلوب سلاح العقل قبل معاركه وفي أثنائها، فكان من ثمراته انتصاراته العظيمة.

وما يقال عن فتوح مصر، يقال عن فتوح ليبيا تقريبًا.

وقد اقتصرنا على دور سلاح العقل في معارك عمرو، ولم نتطرّق إلى نشاط عمرو في استخدام هذا السلاح في مناحي الحياة الأخرى، فقد كان يستخدمه في السلام، كما كان يستخدمه في الحرب، وكان هذا السلاح ملازمًا له، ملازمة الظل لصاحبه، لا ينفك عنه ولا يستغني، فيتخلّص به من مآزق السلام -وما أكثرها- كما يتخلّص به من مآزق الحرب، وينال به النصر في السلام، كما ينال به النصــر في الحرب، سواء بسواء.

وإذا كان للأسلحة التقليدية لغير عمرو من القادة، الأسبقية المطلقة في المعارك على سلاح العقل، فإنّ الأسبقية المطلقة بالنسبة لعمرو هي لسلاح العقل، فهو أولاً، والأسلحة التقليدية لها المكان الثاني، فالرأي قبل شجاعة الشجعان، كما قال أحد الشعراء القُدامى، فهو أول ولها المحل الثاني!

وسلاح العقل الذي استخدمه عمرو في معاركه كافة، ميّز حربه على حرب غيره من القادة، فقال عمر بن الخطاب عن حرب عمرو: (والله! إنَّ حربه لَليِّنة، ما لها سَطْوة، ولا سَوْرة، كسطوات الحروب من غيره).

وصدق عمر في وصف حرب عمرو، فما لها سَطْوة، ولا سَوْرة، ولكن لها ثمرات يانعة، كأحسن ما تكون ثمرات الحروب من غيره ذات السّطوة والسَّورة: النصر المبين.

وهنا لا ينبغي أن يظن أحدٌ أن عَمرًا وحده من القادة كان يستعمل سلاح العقل، ويجعل له الأسبقية على السلاح التقليدي، والواقع أن هناك كثيرًا من القادة يستعملون سلاح العقل، ويجعلون له الأسبقية على السلاح التقليدي، من العرب ومن غير العرب، ولكن عَمرًا يبزّ أكثر هؤلاء في اتّكاله على سلاح العقل أولاً، وعلى السلاح التقليدي بعد استنفاد سلاح العقل كل جهوده، وكل أغراضه، ومختلف طرقه وأساليبه.

واستعمال سلاح العقل أولاً، إن دلّ على شيء، فإنما يدل على اعتماد القائد المطلق على نفسه، وقابليته العقلية المتميّزة بالدرجة الأولى. فهو واثق بالنصر، فلا بأس أن يحرزه بأقل ما يمكن من الخسائر في الأروح، والأموال، والعرق، والدماء، والدموع.

كما أنه لا يوجد قائد لا يستعمل سلاح العقل، ولكن استعمال هذا السلاح يكون بدرجات بالنسبة للقادة، فمنهم من يجعله في المقام الأول، ويكون السلاح الاعتيادي في المقام الثاني، ومنهم مَن يجعله في المقام الثاني، ويكون للسلاح الاعتيادي المقام الأول، وأكثر القادة من الصنف الثاني، أي من الذين يجعلون للسلاح الاعتيادي المقام الأول، وأقلهم من الصنف الأول، أي من الذين يجعلون لسلاح العقل المقام الأول، فما كل قائد يثق بأنه سيحرز النصر، إن لم يكن بالعقل فبالسيف، وآخر الدواء الكَيّ.. وما دامت الحرب تجرّ بالويلات على الغالب، والمغلوب، وتُكلّف غاليًا في خسائر الأرواح والأموال، والممتلكات بالنسبة للمنتصر والمندحر، فهي شرّ لا مراء فيه، وأمر ينبغي تجنّبه بالعقل إن استطاع القائد تجنّبه بالعقل، وتفاديه بغير الخسائر والأضرار إن استطاع القائد تفادي الخسائر والأضرار بالتي هي أحســـن، وإلا فـإذا لــم يكـــن إلا الأسِنّة مركبًـــًا، فمــا حيلـــة المضطّـــر إلا رَكوبها، كما يقول الشاعر العربي القديم.

29 ـ ذلك هو عمرو، وتلك هي سمات قيادته، فلا عجب أن يترك بصماته على بلاد شاسعة من ديار العرب، تمتد من الخليج العربي إلى البحر الأبيض المتوسط في حياته، وتبقى بصماته من بعده حتى اليوم، وستبقى حتى يرث الله الأرض ومَن عليها، لأن فتحه كان فتحًا مستدامًا، لأنه فَتْح مبادئ، لا فتَحْ سيوف، والمبادئ إلى بقاء، والاستعباد إلى فناء.

لقد كانت خسائر عمرو في حروبه في الفتوح، من المسلمين قليلة، وكانت أرباحه للإسلام بالفتوح كثيرة، فأدّى الذي عليه قائدًا، من أبرز قادة الفتح الإسلامي، وأبرز قادة المسلمين على الإطلاق، منذ جاء الإسلام حتى اليوم، وإذا كان هناك مجال للاختلاف في تقويمه إنسانًا، فلا مجال للاختلاف في تقويمه قائدًا، فقد عجزت النساء أن يلدن مثل عمرو، وهو من القادة الذين لا يتكرّرون إلا نادرًا.

إنه ليس من أعظم قادة العرب والمسلمين حسب، بل هو من أعظم قادة الأمم الأخرى، بشهادة مفكري الأمم الأخرى المنصفين.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wadbashir.yoo7.com
Admin
Admin
Admin


عدد المساهمات : 795
تاريخ التسجيل : 30/03/2012
العمر : 68
الموقع : wadbashir.2morpg.Com

 عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين Empty
مُساهمةموضوع: رد: عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين    عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين Emptyالجمعة يونيو 27, 2014 3:20 pm


عمل عمرو سفيرًا في عهدين متناقضين: عهد الجاهلية، وعهد الإسلام، فقد كان سفيرًا لمشركي قريش إلى النجاشي ملك بلاد الحبشة في الجاهلية، وأصبح سفيرًا من سفراء النبي صلى الله عليه و سلم بعد إسلام عمرو، وبعد أن حسن إسلامه.

كان عمرو في جاهليته من أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا، وقد قصد بلاد الحبشة مرتين، سفيرًا لمشركي قريش، في محاولة لتسليم المسلمين المهاجرين إلى بلاد الحبشة، إلى قومهم مشركي قريش، ليفتنوهم عن دينهم، وكانت سفارته الأولى إلى بلاد الحبشة بعد هجرة المسلمين إليها في السنة الخامسة من النبوة، وكانت سفارته الثانية إلى بلاد الحبشة بعد غزوة الحُديبية، التي لم يشهدها عمرو، ولم يشهد صلحها، وكانت سفارته هذه في أواخر السنة السادسة الهجرية، أو أوائل السنة السابعة الهجرية، فأخفق عمرو في إغراء النجاشي بالهدايا الثمينة، والكلام المعسول، ومحاولة إبراز التناقض بين عقيدة النجاشي المسيحية، وعقيدة المسلمين المهاجرين، وبخاصة في المسيح عليه السلام.

وقد بذل عمرو قصارى جهده في سفارتيه، ليجعل النجاشي مع مشركي قريش على المسلمين المهاجرين إلى بلاده، ولكنّه أخفق في مسعاه، إخفاقًا كاملاً، على الرغم مما بذله من جهود مضنية من أجل تحقيق هدفه، ولم يكن عمرو يتوقع أن يخفق في مسعاه، ولا كانت قريش تتوقع إخفاقه، فقد بذل عمرو كل ما يستطيع بشر قادر ذكي بذله، من هدايا، ومحاورة، ومداورة، وإقناع، دون جدوى، كما أن مشركي قريش أوفدوا ألمع رجالهم، وأقدرهم، وأذكاهم، وأدهاهم، وأبرعهم حيلة ومكرًا، فما استطاع أن يغيّر حال المسلمين المهاجرين، من الأمن إلى الخوف، ومن الرّجاء إلى القنوط.

ويبدو أن إخفاق عمرو في سفارتيه إلى أرض الحبشة، جعله يراجع نفسه من جديد، فقد حاول صرف الناس عن الإسلام، فازداد إقبالهم عليه، وآذى المسلمين، فازداد تعلّقهم بالإسلام، ووضع العراقيل مع مشركي قريش ليحولوا دون هجرة المسلمين، فهاجروا إلى الحبشة أولاً، وإلى المدينة ثانيًا، وحاول أن يؤذي المهاجرين في الحبشة، فاشتد عضدهم، وتضاعفت مكانتهم.

وكما أخفق عمرو في محاولاته السلمية للصدّ عن دين الله، وإلحاق الأذى بالمسلمين، فقد أخفق عمرو في محاولاته الحربية لهزيمة المسلمين، وتكبيدهم الخسائر المادية والمعنوية، بل انهزم المشركون، وتكبّدوا الخسائر المادية والمعنوية، وعاد عمرو خائبًا بعد عناء، لم يثمر جهده غير الإخفاق.

وهكذا عانى عمرو إخفاقًا في محاولاته، للصدّ عن دين الله، بالوسائل السلمية والحربية، دون أن يدّخر وسعًا، لإحراز النجاح، أو شيء من النجاح في الحالتين، مما جعله يعتقد أن إخفاقه لم يكن نتيجة لتقصيره، بل نتيجة لقوة قاهرة، فلم يكن صراعه بين قوّته بشرًا، وقوة المسلمين بشرًا، بل كان صراعه بين قوّته بشرًا، وقوة خالق البشر، لذلك توالت هزائمه، وتعاقبت إخفاقاته، دون تقصير منه، فأعلن إسلامه، بعد يقين ناتج عن تفكير متصل عميق، فكان إسلام عمرو، كما وصفه النبي صلى الله عليه و سلم: (أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص)، ولا عجب أن يبلغ تفكير عمرو المتّصل العميق أقصى مداه بالإسلام وانتصاراته المتوالية، والشِّرك وهزائمه المتوالية، في أرض الحبشة، وأمام النجاشي، فيعلن إسلامه على يديّ النجاشي، كما تنصّ على ذلك المصادر المعتمدة، ثم يعود إلى مكة، ومنها إلى المدينة مهاجرًا إلى الله ورسوله، ليعلن إسلامه علنًا، أمام النبي صلى الله عليه و سلم، بعد أن أعلنه سرًا أمام النجاشي في بلاد الحبشة.

وكان انتماء عمرو، حين كان مشركًا، للمشركين من قريش بخاصة وللمشركين من العرب بعامة، وكان ولاؤه لقريش من أهــل مكة المكرمة، الذين ظلّوا على شركهم ولم يُسْلموا، وكان إيمانه، على ما وجد عليه آباءه وأجداده، من عبادة للأصنام والأوثان، وما وجد عليه ذوي الأحلام، من أشراف قريش، ثقة بأحلامهم، التي ضلّت ضلالاً بعيدًا، فضلّ كما ضلّوا تقليدًا لا تفهّمًا، وتعصّباً لا تعقلاً، والعقيدة بعد ذلك تخص العواطف أكثر مما تخصّ العقول، وتداعب الوجدان أكثر مما تقارب العقل، وما تَعْمَى الأبصار، ولكن تَعمى القلوب التي في الصدور.

ولكن عقل عمرو، عمل عمله في كشف زيف الشرك، وتكشيف عبادة الأصنام والأوثان، فاكتشف نفسه بالعقل، الذي ظل يحاوره، ويداوره، ويناقشه الحساب، حتى وجد أن مكانه السليم، ليس في صفوف المشركين، بل في صفوف المسلمين، وليس مع الشرك، بل مع الإسلام.

وقبل أن يُسْلم عمرو، كان انتماؤه للمشركين، وولاؤه لقومه قريش، لا غبار عليه، وكان مخلصًا في انتمائه، صادقًا في ولائه ، ومع ذلك -بالإضافة إلى كفاياته الشخصية المتميّزة- أخفق في سفارتيه، دون أن يكون مقصّرًا في مسعاه، ولكنّه اقتنع أنه كان يقاوم تيارًا جارفًا، لا يقوى بشر على مقاومته، ولا يفلح، فآثر بحصافته وعقليته الرّاجحة أن يكون مع التيار لا عليه، فآمن عمرو، وأسلم الناس.

وبدأت صفحة جديدة لعمرو بعد إسلامه، بعد أن انتهت صفحة قديمة، فأصبح انتماؤه وولاؤه للإسلام والمسلمين، وإيمانه بالإسـلام، وبما جاء به الإسلام في كتاب الله، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام: لغة وعقيدة وتشريعًا، ومُثُلاً عليا في محاسن الأخلاق.

وتولّى عمرو بعد إسلامه سفارته الثالثة، وهي سفارته النبوية التي كانت سنة ثمان الهجرية إلى جَيْفر وعَبْدٍ، ابنيّ الجُلُنْدَيّ في عُمَان، وهما من الأَزْد، والمَلِك منهما جَيْفَر، يدعوهما إلى الإسلام، فأسلم المَلِك، وأسلم أخوه عَبْد، وأسلم معهما كثير من العرب أهل عُمان.

وكان الفرق بين سفارتيه الأوليين وسفارته النبوية عظيمًا جدًا، فقد كانت سفارتاه الأوليان إلى أرض الحبشة للسيطرة على المسلمين المهاجرين المستضعفين، الذين كانوا أناسًا بلا غدٍ بالنسبة لهجرتهم وغربتهم، وهوانهم على الناس، وكان إقناع النجاشي، بما عرضه عليه عمرو من تسليم المسلمين المهاجرين لقريش المشركين، كفيلاً لترحيلهم عن أرض الحبشة إلى مكة، ليلاقوا من المشركين مصيرًا أسود من تعذيب وتنكيل وإهانة، وقتل وصنوف مما يفعله الخصوم الألداء بخصومهم الضعفاء. أما سفارته النبوية، فكانت إلى مملكة ومَلِك ورعية، فأسلموا غير مكترثين بالمنصب الرفيع، والمُلك الواسع، والرعية المُطيعة.. فأخفق في سفارتيه الأولى والثانية، وكان نجاحه ميسورًا، ونجح في سفارته الثالثة، وكان إخفاقه متوقعًا، لأنه كان في سفارتيه الأوليين على باطل، فأخفق الباطل، ولم يُخفق عمرو، وكان في سفارته النبوية على حق، فنجح الحق، ونجح بنجاحه عمرو أيضًا.

وبدون شك، فقد كان مخلصًا في انتمائه، صادقًا في إيمانه، في حالتي إخفاقه ونجاحه، حين كان سفيرًا لمشركي قريش، ثم أصبح سفيرًا للنبي صلى الله عليه و سلم، ولو لم يكن مخلصًا صادقًا، لما اختارته قريش المشركة لسفارتها قبل إسلامه، ولما اختاره النبي صلى الله عليه و سلم سفيرًا بعد إسلامه، فالإسلام يَجُبّ ما كان قبله، كما قال عليه الصلاة والسلام.

تلك هي المزية الأولى لسفارة عمرو: الانتماء والإيمان.

أما المزية الثانية، فهي: الفصاحة، والعلم، وحسن الخلق.

وقد تحدّثنا عن هذه المزية كثيرًا في الحديث على عمـرو الإنســـان، فلا مجال لإعادة ما تحدّثنا عنه من قبل، ونكتفي بذكر نماذج تدلّ على فصاحته، وعلمه، وحسن خلقه، فقد يغني القليل هنا، عن الكثير هناك، وباستطاعة مَن يحب التفاصيل، أن يجدها في مكانها من هذه الدراسة.

لقد كان عمرو عربيًا، وكان العرب مشهورين بالفصاحة، ومن قريش أفصح العرب، وكان مشهورًا بالفصاحة، كما اشتهر بحِكَمِه البليغة، التي ذكرنا أمثلة منها عند الحديث عليه: حكيمًا.. وكان كاتبًا قارئًا، بليغًا في نثره ونظمه، وقد رويت له آثار في الشعر، والخطب الطوال، تسلكه بين الشعراء، والخطباء المجيدين.

وكان عالمًا من علماء الدين الحنيف، فقيهًا، محدّثًا، مجتهدًا في الدين، من أصحاب الفُتيا من صحابة النبي صلى الله عليه و سلم، ومن قضاة المسلمين الأولين.

وقد ذكرنا علمه عند الحديث عليه عالمًا، في الحديث على عمرو الإنسان.

أما خلقه الكريم، فقد وصفه رجل فقال: (ما رأيت رجلاً أبين قرآنًا، ولا أكرم خلقًا، ولا أشبه سريرة بعلانية منه).

وفي حديث إسلام عمرو، وصف إسلامه فقال: (... وما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله صلى الله عليه و سلم، ولا أجلّ في عينيّ منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه، إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه، ما أطقت، لأنني لم أكن أملأ عيني منه...)، والحياء إذا تيسر في إنسان -وبخاصة في مثل هذه الدرجة، وبمثل هذا الإخلاص- دليل على حسن الخلق.

لقد كان عمرو يبهر مَن يتّصل به من الناس بفصاحته، ويدهشهم بعلمه، ويأخذهم بحسن أخلاقه، ويأسرهم بمزاياه الكثيرة، في السِّلم والحرب، وفي السّراء والضرّاء، فكان زينة المجالس إذا جلس، والظّاهر بين الناس إذا قام.

أما المزيّة الثالثة لسفارة عمرو، فهي الصبر والحكمة.

وقد أبدى عمرو في سفارتيه الأوليين لمشركي قريش إلى النجاشي ملك الحبشة، صبرًا عجيبًا في الإعداد للرحلة من مكة إلى الحبشة، وإعداد الهدايا التي يحبّها النجاشي وخاصته، واستقطاب حاشية النجاشي بالهدايا الثمينة، لضمان ولائهم له، ومعاونته عند النجاشي على المسلمين المهاجرين إلى أرض الحبشة.

كما صبر صبرًا جميلاً على دراسة وتفهم ما جاء به الإسلام من التعاليم الخاصة بالمسيح عليه السلام، وما جاء في تعاليم المسيحية، وإبراز التناقض للنجاشي من أجل استثارته للتنكيل بالمسلمين المهاجرين.

كما صبر صَبْرًا جميلاً على اتصالاته المستمرة الطويلة بحاشية النجاشي والنجاشي، وعلى مفاوضتهم بغياب المسلمين المهاجرين وبحضورهم.

وكانت تصرفات عمرو في سفارتيه هاتين، تتسم بالحكمة والاتزان، فبذل قُصارى جهده، لتحقيق هدفه، ولكنه رضي بالسلامة والخيبة، بالرغم مما بذله من عناء.

أما في سفارته الثالثة، وهي سفارته النبوية إلى عُمان، فقد اتّسم بالصبر والحكمة أيضًا، فعرف مزايا الملك، ومزايا أخيه، ففاتح الملك بعد أن ضمن أخاه، الذي فاتحه قبل الملك، فكان أخو الملك عند حسن ظن عمرو، وعاونه في مهمته معاونة صادقة.

لقد كان عمرو حكيمًا في أقواله وتصرفاته، كما ذكرنا ذلك في الحديث على الحكيم، كجزء من تفصيل: عمرو الإنسان.

أما المزية الرابعة لسفارة عمرو، فهي: سعة الحيلة.

وقد تحدّثنا عن دهائه طويلاً، إذ كان من دُهاة العرب الأربعة المشهورين، حاضر البديهة، عظيم الذكاء، طويل التجربة، ويكفي أن نتذكّر قوله: (ما دخلتُ في شيء قط، إلا خرجت منه)، وقوله: (لم أدخل في أمر قط فكرهته، إلا خرجت منه)، وقوله: (ليس العاقل الذي يعرف الخير من الشر، ولكنه الذي يعرف خير الشرين).

لقد كان أحد الدهاة المقدّمين في المكر والرأي، وكان من دُهاة العرب، وكان معدودًا من دُهاة العرب، وكان من أبطال العرب ودُهاتهم، ذا رأي.

ولعلّ دخوله على قادة أعدائه، الذين يحاربهم في الميدان في مقراتهم، وتخلّصه منهم بعد انكشاف أمره لهم، ومعرفتهم بأنه القائد، وليس رسوله، أدلة قاطعة على سعة حيلة عمرو.

وتملّصه من النجاشي في سفارتيه الأوليين بعد غضب النجاشي عليه، دليل على سعة حيل عمرو.

وتفوّقه في النجاح، لا نجاحه حسب، في سفارته النبوية إلى عُمان، دليل على سعة حيلة عمرو.

واجتيازه الفيافي والقفار في طريق عودته من عُمان إلى المدينة، مجتازًا المناطق الملغومة بالمرتدين، منهم قُرّة بن هُبيرة، ومُسيلمة الكذاب، بعد التحاق النبي صلى الله عليه و سلم بالرفيق الأعلى، وتخلّصه من الأعداء والمرتدين، ونجاته بنفسه منهم، وهم أحرص ما يكونون على إبادة مَن هم أقل منه شأنًا من المسلمين، دليل على سعة حيلة عمرو، وذكائه الخارق، وحسن تصرّفه، وبُعد نظره، ودهائه العظيم.

إنّ كل أعمال عمرو السلمية والحربية، أدلة قاطعة ملموسة على سعة حيلته، بل تميّزه في هذا المجال.

أما المزية الخامسة لسفارة عمرو، فهي رواء مظهره.

فقد كان أدعج أبلج، يخضب شعره بالسواد، يهتم بملبسه، وبذلك يكون مظهره مقبولاً، إن لم يكن حَسَنًا، وقد كان سفيرًا لمشركي قريش إلى الحبشة. وعمرو بهذا الوصف يبدو حسن المظهر بالنسبة للحبشة، ثم كان سفيرًا نبويًا إلى عُمان، وهم من العرب الأزد، وعمرو بهذا الوصف، يبدو مقبول المظهر بالنسبة للعرب قومه، فهو منهم، وهم منه، والعرب متقاربون في الغالب مظهرًا.

ولكنّ المَخْبر أهم بكثير من المظهر، وقد كانت طاقات عمرو في مَخْبره متميزة، ونادرة، ولا تتكرر إلا قليلاً جدًّا، ولكنّ المظهر أيضًا مزية من مزايا السفير، فكان لابد من ذكرها، وعدم إغفالها.

ولم تكن هذه المزايا الخمس، التي كانت متيسّرة لعمرو سفيرًا، مقتصرة عليه وحده، دون سفراء النبي صلى الله عليه و سلم الآخرين، بل كانت متيسرة فيهم جميعًا، بدون استثناء، ولكن كل مزية على انفراد، لم تكن متساوية كمية ونوعية في كل سفير، بل كانت على درجات متفاوتة فيما بينهم، ولكنها كانت درجات عالية لا يهبط مستواها أبدًا، بل يرتفع هذا المستوى، والتفاوت هو في درجة الارتفاع وحده.

وكانت مزية: رواء المظهر، مرتفعة الدرجة في سفراء النبي صلى الله عليه و سلم، الذين أوفدهم إلى كسرى الفُرس، وقيصر الروم، ومقوقس مصر، لأن هؤلاء الملوك كانوا يهتمون بالمظهر كثيرًا، ويؤثر فيهم المظهر قبل أن يتأثروا بالمَخْبَر، ويكون صاحب المظهر الحسن أقرب إلى نفوسهم، وأقدر على التأثير فيها وأحرى أن يُسْتَقبَل بالقبول والحفاوة.

وما تذكرت المزايا الخمس الرئيسة، التي كانت في سفراء النبي صلى الله عليه و سلم قبل خمسة عشر قرنًا خلت -وهناك مزايا فرعية أخرى متيسّرة فيهم أيضًا، بشكل أو بآخر، لم نتطرق إليها خوفًا من الإطناب، واكتفاءً بالمزايا الرئيسة حسب- ما تذكّرت تلك المزايا التي سنّها عليه الصلاة والسلام في اختيار السفراء، وطبّقها في اختيار سفرائه، وطبّقها الخلفاء الراشدون من بعده، وخلفاء بني أمية، وبني العباس في أكثر سفرائهم، إلا وتمنّيت أن يطبّقها المسلمون في هذا القرن لاختيار سفرائهم، إذ يبدو أنهم يعمدون إلى مخالفة توفّر هذه المزايا في السفير، أو يتعمّدون مخالفتها، والنتيجة أن أكثر سفراء الدول الإسلامية -إلا النادر منهم- وجودهم من مصلحة أعداء دولهم لا من مصلحة دولهم، ما في ذلك شك، ولعل أولئك السفراء قبل غيرهم يعرفون هذه الحقيقة.. فلا انتماء، ولا إيمان، ولا فصاحة، ولا علــم، ولا عمل، ولا حسن خلق، في أي شكل من أشكاله، ولا صبر على حل المشاكل والمعضلات، ولا حكمة، ولا سعة حيلة، ولا رواء مظهر، فهو ضريبة على دولته وكفى.

ليت لنا سفراء من أمثال عمرو، فما أحوجنا إلى أمثاله هذه الأيام!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://wadbashir.yoo7.com
 
عمرو بن العاص ..القائد المسلم.. والسفير الأمين
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
»  بعد الشر عليك - محمد الأمين
» الأدعية المستجابة، والأوقات التي يتحرى فيها المسلم الدعاء

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ودبشير ارض الشمال :: القسم الاول الاسلامي :: التاريخ الاسلامى-
انتقل الى: